كتابة النقصان والشر والحنين في الروايات العربية المعاصرة


*عواد علي


يرى الناقد التونسي مصطفى الكيلاني في كتابه “الرواية والتأويل: سردية المعنى في الرواية العربية”، أن العادة قد جرت في نقد الرواية العربية منذ ثلاثة عقود، تقريبا، باعتماد المناهج الوصفية ضمن حقل بحثي عام هو علم السرد دون التسليم بأنها الوصفية المحض، كالاستفادة من السيمانطيقا (علم الدلالة).
إن أسئلة المعنى ستظل في المعنى الروائي تحديدا، شبه مغيبة في مجال القراءة العامة ضمن اتفاق ضمني جماعي مفاده أن السرد عمل أقرب إلى المطابقة منه إلى وصف الإيحاء.
ويذهب الكيلاني إلى أن قارئ الرواية العربية، منذ ثمانينات القرن الماضي، لاحظ أن فيض الدراسات المهتمة بتحليل الظاهرة التجريبية لا يفي بالحاجة لفهم قوى الاندفاع فيها، وإدراك أبعاد المغامرة الجمالية والوجودية، وأن المناهج الوصفية لا تفي إلا ببعض من الفهم، وأن ما ينجز تفكيكا وتحليلا وتوصيفا للبنية السردية الروائية ضروري لا محالة، من الإجحاف تنزيله في مقام المتن والاقتصار على الإلماح فحسب إلى الميتا- سردي (السرد الواصف، أو المتمرئي في ذاته) والمحتجب في الهامش.
ويقصد الكيلاني من هذا الكتاب، الصادر حديثا عن دار أزمنة للنشر والتوزيع في العاصمة الأردنية عمّان، إلى الاستمرار في نهج التأويلية الذي اشتغل عليه سابقا في قراءة الشعر، والمبحث الفكري والثقافي من دون الاستغناء عن طرائق الوصف، التي هي مداخل وهوامش ضرورية لإنجاز المتن التأويلي.
يتساءل الكيلاني كيف نقارب وهج اللحظة ومخبأ القصد في نص روائي؟ وما الذي يفارق ويؤلف بين الأعمال الروائية العربية؟ ذلك أن مفهوم الرواية لا ينحصر في أداء السرد فحسب، كالشائع في الدراسات الوصفية السردية، بل هي ضروب شتى من كتابة التاريخ الخاص، كأن تستقدم الأعمال الروائية إليها الأحداث التاريخية، ما تعاظم منها وما بدا جزئيا من قبيل الدقائق والتفاصيل. لذلك أمكن للرواية أداء تاريخية هذه التفاصيل، كي تختلف في الوظيفة والرؤية عن المبحث التاريخي، كأن يتولى التاريخ فيها سردا شبه ذاتي يداخل ويباعد بين الواصف وذات الموصوف سردا بالتاريخ وتأريخا بالسرد.
يتوقف الكيلاني عند الظاهرة المكانية، مبينا أنها الوجه الآخر لموضوع السرد الروائي، إذ تتحدد التفاصيل بما هو موقعي، بما يعرض مكانا وفي المكان. لذلك اتجه اهتمام السرد الروائي إلى المدينة على وجه الخصوص، إلى شوارعها وأزقتها وشققها ومقاهيها ومساجدها وحاناتها.. إلى الأشياء الدالة على المتناظم والمتفارق فيها.
ويستنتج أنه كلما تلازمت نشأة الرواية العربية ووعي المكان تعمقت دلالاتها بالأشياء المكانية، بدقائق التفاصيل والأسماء، بما أسهم عبر المتراكم في إنشاء ذاكرة سردية عربية جديدة تستفيد من التراث الحكائي القديم وتضيف إليه جديدا، هو من المكانية الحادثة وإليها وعليه اتسع مجال الرؤية السردية وتعدد واختلف بهذا الزخم الهائل من الأشياء الحادثة في زمن الحياة الجديدة بالمدينة، وبالحالات التي غيرت تاريخ السرد من المطلق إلى النسبي، ومن الغيب إلى الوضع، ومن الاعتبار إلى الإحضار، ومن ذاكرة الاسترجاع إلى ذاكرة النسيان بالإنشاء والفسخ، وإعادة الإنشاء مرارا وتكرارا، تكثيرا وتنويعا.
إن استقدام التاريخ وخبرة المكانية الحادثة وجهان لمغامرة سردية عربية جديدة، كما يرى الكيلاني، وقد ترسّخ حضورها في راهن الثقافة العربية بقضايا وجودية مركبة، حولت الرواية العربية من رواية قومية أو إقليمية، إلى رواية إنسانية بهموم كونية لم تعرف بعد الانتشار العالمي بسبب حاجز اللغة وانتفاء الترجمة، إذ تحولت من الرواية شبه المنغلقة على ذاتها بانتهاج وصفية المطابقة إلى تمثل جديد لجس السرد الروائي، بالشاعرية ومختلف أشكال التناص الأدبي، والفني، وبالهموم الإنسانية في مكانية أرضية لا تنحصر خارطتها في الأوطان والأقاليم السالفة. وهذا ما دفع بالوعي السردي الروائي العربي إلى خوض تجربة كتابة النقصان والشر والحنين إلى الرحم الأول، إلى البدايات، واستبداد القطعية رغم القول بتنامي ثقافة الاتصال.
ويتطرق الناقد إلى حاجة الوعي السردي إلى الاستفادة من حالات التوسط في مجال السرد، وغيره من حقول التمثّل والتفكير الأخرى، مبينا أن رواية “أرض اليمبوس” لإلياس فركوح، على سبيل المثال لا الحصر، وإن تحدّد مفهومها بمدلول فردي وثقافي خاص، تعني الكثير بالنسبة إلى هذا الوعي السردي الحادث.
_____
*العرب

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *