الطائر الغريب


محيي الدين كانون *


خاص ( ثقافات ) 

  

في وقت الحَصاد حيثُ تمْتد أمواج سنابل القمح كصفائح من الذهب الخالص في مساحات شاسعة الأطراف ، مترامية ، لا للعين أن تحدها ، ولا للأقدام أن تطويها .
وَقف ( حازم ) في الرٌكن الشّرقي من المزرعة متأملا مشدوها لهذا الإشراق الجميل المنبعث بين السماء والأرض ؛ الشمس هنا ضاحكة تلامس حقول القمح وتغمرها بحنانها الدافئ عبر خيوطها الذهبية تكاد تدغدغ ذؤابات السنابل فتهتز هذه وتتمايل طربا مع نسمات الربيع القادمة من الشمال .
في وسْط هذا الإشراق الجميل المُبْهر ، انتصبت في جهة الركن الشرقي من حقول السنابل الذهبية شجرة لوز وحيدة مزدهرة ، مثقلة بعناقيد أزهارها البيضاء الفجرية المتلألئة ، وكأنها من بقايا نور الفجر المشعشع الذي غادر مُنْذُ ساعة ، وقد خلّف من وراءه ضوء النهار المشرق لتسبح فيه أسراب من الطير بعينها جذلى وفرحة بهذا النعيم الرباني تحت أجنحتها وبصرها لتغص فيه لدقائق تنقر ما استطاعت من الحبّ ، وتختطف ما استطاعت لتطير به غير مبالية بشبح فزّاعة قائم بغباء في وسط الحقول على بعد أمتار من شجرة اللوز .
اندهش (حازم ) لهذه الأمواج من أسراب ( القصبي )** ، ولكنه اندهش أكثر من الطائر الغريب الجميل الساكن وحده فوق أعلى قمّة من شجرة اللوز بلون ريشاته المٌخططة بالأبيض والرصاصي والأسود , وباستدارة كيانه وارتفاع رأسه وعقفة منقاره ، كأنه من فصيلة الصقور النادرة ، تأمل حازم بعين فاحصة بقائه جامدا فوق الغصن ، وكأنه منحوت من الصخر . 
وما أدهشه أكثر ، بقاء الطائر وحده مزهوا بكيانه ، مكتفيا بنفسه ، يتنسم هفوف النسيم في قمته تلك …فسأله مبادرا متعجبا :
ــ لماذا أنت وحيدا أيها الطائر الغريب ؟!
تطلع الطائر يمينا ويسارا باحثا عن مصدر الصوت بين ضجيج أسراب (القصبي) المتساقط فوق حقل السنابل كالذباب النهم على العسل ، فلمح الطائر الغريب ( حازم )على بعد أمتار من الشجرة فأجابه باقتضاب :
ــ إنني وحدي حقيقة .
سكن تيار الزمن كأنه الدهر ، ورأى الطائر أن يفصح أكثر دون أن يحرج ( حازم ) وأضاف :
ــ إننا من فصيلة منتهية ، تواجه مصير الانقراض كما واجهته 
فصيلة الديناصورات . 
لمْ يتوقع ( حازم ) هذا الجواب فزادت حيْرته ، كما زاد احترامه وهيبته لهذا الطائر الشجاع ، فقال مندهشا :
ــ لماذا وأرض الله واسعة ؟!
ردّ الطائر بأسى مفعم بنغمات من الكمد لا تخلو من رصانة حزينة :
ــ أرض الله ــ من المؤسف – لم تعد تسعنا جميعا .
تمعن (حازم ) في الجملة الأخيرة وهو يستجلي إشراقة الأفق :
ــ كيف ؟
ــ هجرنا مناطق وقارّات بسبب هذا ( الجفاف ) ونفق منّا الكثير .
شعر ( حازم ) بشيء ينتفض داخله فقال متحمسا :
ـــ ما العمل ؟ 
ضحك الطائر الغريب ، وتبدّى لسانه من داخل جوف منقاره كريشة مزمار مرتعشة :
ـــ جواب ذلك يخص بني البشر وحدهم فقط ، لكننا جميعا في مركبة واحدة 
….نُواجه المصير نفسْه . 
ارتبك ( حازم ) و لمْ يُعلق…. شرع يُغمْغم بكلمات من أغنية قديمة …
_______
* كاتب وأديب من ليبيا .
** طائر يكثر في شواطيْ المتوسط .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *