مقهى الحصائر


*عبدالجليل لعميري


خاص ( ثقافات )
نتسلل تحت عباءة الليل الواسعة نحو المقهى ….هاربين من رتابة “القسم الداخلي”…نتسلل ونحن نركب أجنحة الكلمات ،متشوقين الوصول إلى مقهانا المفضل …كلمات مهربة في زمن بارد تشع فينا الدفيء ولو لحين…”اليوسفي المجرور من حبل الغسيل حتى ياقة عبد الكريم…يوم قلت لك قم واستشهد وخذ رأسك بين يديك ..”…دم حيض هذا الوطن…قصيدة توحد مشاعرنا الشبابية..
وفي مقهى الحصائر ، بـ”السوق الخانز” ،نجتمع حول براد شاي منعنع ،وبضع سجائر من النوع الرديء ..قل الشعبي…تحرسنا بقايا روائح السردين والسمك المتطايرة في الزقاق المسمى بـ”السوق الخانز” .. سوق السمك النيئ والمطبوخ…. 
ونردد معا ، بما يشبه الهمس : القدس عروس عروبتكم …فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى غرفتها ووقفتم تسترقون السمع لصرخات بكارتها…؟؟؟أولاد ال……لا اخجل حين أصارحكم بما فيكم …ما أوسخنا ..ما أوسخنا …و نكابر…لا استثني أحدا….
نخيط بشعاع الأمل وكلمات القصائد أحلامنا المهربة …متوجسين من الرقيب غير البعيد عنا…
خالي عمارة رجل ستيني خاطت شعيرات الشيب سواد رأسه ….المغطى دوما بطاقية تزاوج فيها اللونان الأحمر والأخضر…وجه مستطيل حرث الزمن فيه بعض الأخاديد المدفونة فيها بعض أسراره…قامة فارعة ، لكن الهيكل يبدو شبه فارغ إلا من عظام طويلة مكسوة ببعض الجلد المغطى بشعيرات يمتزج فيها السواد بالبياض…حركته بطيئة وكأنه قد ألغى الزمن من حسبانه..
خالي عمارة هو صاحب المقهى وهو كل شيء : نادل وخادم وطباخ وزجال شعبي وصاحب نكتة ورجل خبرة ونصيحة…ألفناه وألفنا…نشرب الشاي الليلي وندخن سجائرنا السوداء – ثلاث مرات في الأسبوع على الأقل- سواء كانت لدينا بضع دريهمات أو هجرتنا لمدة طويلة..فهو كفيلنا …وقد يكرمنا أحيانا بقليل من سمك السردين كفتة أو مقلي …لذلك كلما عدنا من زيارات عائلاتنا بقرانا البعيدة نخصه ببعض غنائمنا : زبدة بلدية …لبن…خبز الدار …حلوى …سمن حار…
كنا أربعة …نزيد واحدا أو ننقص..كنا زبناء مميزين لأننا نشترك مع خالي عمارة في أمور لا يستطيع إليها باقي الزبائن طريقا…خصوصا السياسة والتاريخ…فالمعلم عمارة ، كما يسميه الآخرون ونخصه نحن بخالي ، له سوابق نضالية لا بأس بها..كان عاملا سابقا بأحد معامل تصبير السردين ، وكان نقابيا يساريا …لذلك اعتقل أكثر من مرة وطرد من الشغل …ومنذ زمن بعيد وهو يكتري هذه الخربة …والتي يسميها أحيانا : “عين الدياب” او عين الحنش…ساخرا…حولها إلى مقهى شعبي هو عبارة عن مكان عبور او “ترانزيت” ..كما يحلو له ان يقول…”الزبون يأتي إلى هنا ومعه أكله و شايه ونعناعه…وأنا علي إعداد الشاي والمكان للزبون…نأكل طرف ديال الخبز مع الحباب..”.ويتنهد….
حين يتأخر الليل وننفرد بخالي عمارة يصدح صوته بالأزجال “نوصيك يا واكل الخوخ من عشرة رد بالك في النهار تظل منفوخ وبالليل تبات هالك….الطير ما ظنيته يطير من بعد ما والف… ترك قفصي وعمر قفص الغير رماني في بحور بقيت تالف”.
كما يحلق بنا أحيانا في عوالم النكتة المرحة…ويحط بنا في عوالم جدية ليحكي لنا عن تاريخ المدينة والوطن…عن بلاد عبدة وحاضرة أسفي وذاكرتها السياسية…وحين يكون المكان محتلا من طرف الأغراب ..يخفت صوته ويستنفر حواسه …يقول بهمس ،بعد خروج زبون مشبوه : هذا الزلافة غريب …ما يكون غير شي حنش…ردوا بالكم…
يوم اعتقلنا ، على اثر المظاهرات التلاميذية ، رأيناه ضمن الحاضرين بالمحكمة ،كان كالضاحك المسرور ،يشير إلينا بيده اليمنى ويضعها على صدره…وسام محبة كان ذلك على صدورنا…
ورغم المحنة التي عشناها ..ورغم كثرة الحضور المتنوع :الأسر والأصدقاء والأساتذة والمحامون والمناضلون…فان حضور خالي عمارة كان له طعم خاص…فكأنه عرابنا الذي جاء ليحمينا وسط الزوبعة…
كانت التهم : المشاركة في مظاهرة غير مرخص لها….وحيازة أشرطة كاسيط لمارسيل خليفة والشيخ إمام….وكان للمحامين صولات ساخرة من التهم وواضعيها…وبعد مرور العاصفة …عدنا لمقهانا المفضل…واكتشفنا تتمة الحكاية ..
اعتقل خالي عمارة لمدة يومين بالموازاة مع اعتقالنا ..واستنطق واستدرج للإيقاع بنا والشهادة ضدنا كخلية ماركسية مخربة ومعادية للنظام…ولأنه كان يعرفنا أفضل من المخبرين فقد كان يعلم أن لا علاقة لنا بذلك اللون السياسي..فأصر على إنكار أي صفة سياسية لنا …وقدمنا كمجرد تلاميذ عاديين بدون أية خطورة …فاتهموه بالتواطؤ وهددوه بإغلاق المقهى ..وهو الأمر الذي تم بالفعل لمدة أربعة أيام تالية للأحداث…ثم رفعت عنه يد المخزن لأسباب يجهلها..
رحم الله خالي عمارة والأيام الخوالي….زمان العشق بأسفي…….

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *