مهند النابلسي*
خاص ( ثقافات )
بالرغم من عشقي للسينما وهواية مشاهدة الأفلام، فأنا لا أحب الأفلام الطويلة التي تزيد مدتها عن ساعتين، بل أجدها ثقيلة الظل والدم بل ومملة بمعظمها إلا ما ندر، كما أنه من الصعب جذب انتباه وإصغاء المشاهدين لأكثر من مئة دقيقة، ولكنك قد تنجذب لمخرج طموح ومجنون مثل “باول توماس اندرسون” لمشاهدة فيلمه الطويل هذا (أكثر من ثلاث ساعات)، بالرغم من كثرة المشاهد المشحونة بالثرثرة والهستيريا والتكرار لسبب وحيد يكمن بكمية الطاقة المتدفقة المدمجة مع تشويق فاتر ودهشة غير معهودة بمثل هذا النوع من الأفلام.
تتداخل كل واحدة من شخصيات هذا الفيلم مع الشخصيات الأخرى بطريقة “كيميائية” تفاعلية فريدة: فالعجوز المحتضر (جوليان روباردز) يحظى بخدمة متفانية من زوجته المنتجة (جوليان مور)، كما أن ممرضه المخلص (الممثل الراحل قيليب سيمور هوفمان) يسعى بنجاح لمصالحته مع ابنه (توم كروز)، الذي تخلى عنه منذ سنوات.
ونرى عجوزا آخر (فيليب بيكر هال) الذي يصارع “السرطان” وهو يحاول التقرب من ابنته الحقودة الغاضبة (ميلورا والترز) التي تجذب بدورها الشرطي (جون ريلي)…كما نتابع انهيار حياة نجم برامج المسابقات السابق (وليام ماسي)، فيما نرى صعود نجم جديد شاب مكانه (جيرمي بلاكمان)، هكذا يبدو وكان وادي “سان فرناندو” (الذي تدور الأحداث فيه) والفيلم نفسه (وربما المشاهد المسكين نفسه) على وشك التعرض لحالة هستيرية مزمنة من الانهيار العصبي.
كان بامكان المخرج المتحذلق أن يطرح موضوعه السينمائي بحوالي الساعتين لا أكثر، ولكن هوسه بإلهام وتقليد المخرج المبدع “روبرت ألتمان” بفيلمه الشهير”تقطيعات قصيرة”، دفعه ربما لإخراج هذه الملحمة المملة المتداخلة للعلاقات الإنسانية ، والتي يمكن تلخيصها بحالة”البؤس المزمنة” التي تعانيها الشخصيات بعلاقاتها المضطربة بالجيل الذي يسبقها، فيما يسمى حاليا “بصراع الأجيال”…كما يستطرد أندرسون بعض إعجابه الشديد ببعض الممثلين أو إحدى الممثلات، فتطلق جوليان مور “منولوجا صراخيا أوبراليا غاضبا” بعد أن تكتشف فجأة حبها الشديد لزوجها المحتضر، في محاولة مفتعلة لتعزية نفسها، ولكنها لا تنجح القط باقناعنا بل تتسبب بالمزيد من الصداع لنا كمشاهدين تحملنا معاناة المشاهدة لأكثر من ثلاث ساعات…ولكن فالحق يجب أن يقال فأسلوب أندرسون المجنون بصناعة الأفلام ربما يغفر له بعض الهفوات والثرثرات والاستطراد الممل، فأفلامه السابقة مثل “الثمانية الصعبة” وليالي بوجي” وفرت له رصيدا وسمعة طيبة، لنجاحه بالتعمق “بواقعية درامية لافتة” لقصص الجنس والمقامرين والمخدرات، التي تنخر المجتمعات الغربية، والتي يبدو أنها تعجز عن مواجهتها وإيجاد العلاج لها.
يتحدث هذا الفيلم الغريب بإسهاب عن مواضيع الحزن والفقد والحرمان، وعن مرارة الحياة والندم وتعذيب الذات، كما يتطرق لاختفاء التفاهم وتداعي العلاقات بين الأجيال، ويحشر ببراعة عدد كبير من الممثلين المبدعين، وينجح بخلق “كيمياء” بينهم بلا تصنع و”فبركة” …كما يتضمن مشاهد غريبة تبدو كمجرد “صدف”، مثل الضفادع التي تسقط فجأة من السماء، وكحالات تحطم السيارات أمام الشقق والمستشفيات، ويبدو أن “المؤلف-المخرج” يضعنا أمام متاهة فلسفية مزمنة ومحيرة: ماهو دور الصدف بحياتنا…وهل تحركها قوى غامضة “خارقة” أم هي مجرد صدف عشوائية؟!