*وحيد ابوالجول
خاص ( ثقافات )
الحياة أشبه بمزمارٍ هرم تنفخ فيه امرأة مسنة بعد انتصاف الليل لا ينفع لشئ سوى استمرار الخداع ونصب الشرائك للوافدين إلى رأس السنة وبرده اللطيف ، كان كما الآخرين حجارة ملونة وأسماء في علب كارتونية يقذفها الهواء في الطرقات ، هكذا هو يومه بعد خمسين عام من النظر إلى نفسه في مرآة مضببه وواقع يهمشه كلما رفع يده ليمسك سقف الغرفة ويمضي بما ظنه ملائماً لأحلامه .
عَلقَ معطفَه الأسود الصوفي في زاوية الغرفة القريبة من باب مصنوع من خشب صناديق ذخائر الحروب والذي يحدث صرير كلما حركته الريح أو مر من تحته فأر سمين أو فكرة تعبث بالوقت الذي يهمله دائما وهو يقرأ كتاباً قديم قد اشتراه من بائع انتيكات ، الكتاب الذي يجهل مؤلفه وعنوانه ، فقط مائة وخمسون ورقة سمراء أجهضها كاتب ما أو كاتبة ، فقط هي مجموعة قصص عن الحب لرجل يتكرر في كل قصة وكأنه يلهث هاربا من موت يحدق به أو نهاية لا يتمناها ، نظر إلى الشارع المزدحم بالمارة من خلال ثقب كبير احدثه في الجدار لغرض تغير مناخ الغرفة والتسلل بنظراته إلى الخارج المزدحم بالضجيج والحرارة واللعنات التي ترافق سير السحب من فوق سماء المدينة ودوي الطائرات الحربية التي مازال اثرها عالقاً في ذهنه كلما نظر إلى السماء .. لسنتين وهو يقف عند القصة قبل الأخيرة ، يكرر قراءتها ثم يرجع إلى الأولى ليرفع عنها غبار الأمس وفتات الخبز الذي تساقط من فمه ليلة البارحة حين كان يتناول وجبة العشاء ، ابتسم وهو يلامس خدي غادة في قصة هياكل من ثلج ، القصة التي يجدها مشوقة جدا وهو يمر على أحداثها بخطوات سريعة قبل أن ينقضي الليل ويغلبه النعاس وينتابه الكسل ، كان يتقدمها بخطوة وهي تقطع طرف غابة المانجو من جهة الجنوب ، والذي يمنحها شعوراً طيب لمحاذاته نهر صغير ينتهي بمسكنها المضاء ليلاً ونهاراً بسبب جدرانه الخارجية المطلية بلون أبيض مشع والورود التي تحيط به ، كان يراها في خياله من حين لآخر تشاركه طعامه ونكاته ، تعد له سريره وتبتسم له كلما دنى من خدها ليلمسه ، كانت أبنة لأم طاعنة في السن وصديقة لأختها المصابة بجنف العمود الفقري ، تقوم بأعمال المطبخ وتنظيف أروقة المسكن البسيط وشراء متطلبات الحياة والعاملة بوقت جزئي في محل لبيع الملابس النسائية ولوازم الأعراس وكتابة الشعر وسط حركتها الدؤوبة واحلامها الكثيرة التي تميزها كل ليلة بعلامة وردية عن باقي الكوابيس التي تلازم وسادتها ..
شعر بالحرج أمام ما يقرأ كونه عاجزاً عن عمل أي شئ سوى الفوضى التي يحيطها بيومه والسير لأمتار قليلة لبيع بعض من مقتنياته القديمة وتفحص وجوه النساء حين يشعر بالجوع وتلبسه رغبة في شراء قميص .. جلس على رصيف الشارع ، أشعل سيجارة ، ضحك بصوت عالٍ ، نظر إلى السماء ( لا أظنك ستمطرين ) رفع قامته النحيفة لأدنى من البرد بقليل ، حمل قدميه خارج الوقت المهمل ويديه التي تراوغ خطوط العبور بحركات بهلوانية ، ركض باتجاه شاطئ البحر الذي تقف عنده غادة مساء كل يوم أحد لتلقي أمانيها في جوف الغسق بعد أن تلوح للنوارس وزغبها الذي يحمله الموج بعيداً عن عينيها ، كانت خطواته مضطربة لم تسعفه بالوصول في الوقت المناسب ، كان يلقي اللوم على قلبه الضعيف والخمسين سنة التي بلغتها روحه في الشتاء الفائت ، حمل أنفاسه خارج الليل ينتظر الصباح والوقت الذي تخرج فيه غادة لملاقاة يومها وهو يراقب بطرف عينيه الرجل الذي يحاول ان يتفادى الغرق بالصراخ في قصة أخرى وجانب آخر من الحياة ، ما من شئ يفعله سوى الركض بين جدران غرفته للحاق بالمسافة التي تفصله عن الصباح الذي تخطته غادة واللحظة التي يحاول أن يتشبث بها الغريق ، في الوقت الذي ضجت به المدينة وخرجت مذعورة من حريق أكل البيوت وافراحها برأس السنة ، خرج كما المدينة لحمل ما لم تأكله النار وانقاذ بعض الأرواح تاركاً ما كان يقرأه ورغبة مضيئة واحدة تجوب المساحة الضيقة والطريق الذي تقطعه غادة في ذات الوقت الذي أنهك جسده صراخ الأطفال وأمهاتهم والحرارة التي تلفح بشرة وجهه السمراء ، لساعات وهو هناك في جانب من المدينة المظلم بعد اخماد النيران يتفحص المكان والزمن الذي غادرته قلوب الكثيرون دون أن تترك ملاحظة ليوم غد ، فقط عذرا واحد لغيابها المفاجئ وحلماً طوقته النساء بالصراخ وهي تبحث عن بقاياها تحت الرماد ( هنا ) كان جسد محترقاً ، طفلاً لأم ، حملته كقلبها المفجوع ، ركضتْ به إلى الماء ( هناك ) على الرصيف رجل يلفظ أنفاسه الأخيرة وعيناه باتجاه البرد في ساعة كانت فيها المدينة تقضي ليلتها بالضحك والتراشق بالأحلام .. كانوا بالعشرات خطفهم الوميض من بين أحداق عيون حبيباتهم ورسائلهم التي جالسوها سنين وهم يتفقدون ما بعد التحية بوجه يبرق تاركين بعد كل سطر وردة وقلباً يقطر دماً هداياهم لمن أحبوا .. لم تكن الشمس حين خرجت من غفلة العتمة سوى قرص ملتهب يعلو الرؤوس التي مازالت تبحث عن ناجين .