أحلام طفولية


*عائشة بنّور


خاص ( ثقافات )
لم نقرر مغادرة عكّا، كنا مجبرين على ذلك وأنا طفل صغير ثم شاب حينما وضعتُ يدي على حفنة تراب وهي تنساب بين أصابعي هاربة من قبضتي وغصة المرارة في الحلق مٌرة كالعلقم. ثم شاحت أمي بوجهها عني بعدما تركَتْنِي في العراء بخطى ثقيلة ومتعبة، تجر أذيال الخيبة، تتوقف تارة ثم تواصل سيرها بعدما أنهكها المشي، كأنها تنتظرني وقد جفت الدموع في مآقيها، لكن قلبها كان ينتحب بألم، في عينيها بريق يوحي بقدرة كبيرة على الصبر والتحمل واليتم والفقر والهجر، تخطو خطوات إلى الأمام ثم تتراجع خطوتين إلى الوراء، كأنها تنتظرني أن ألحق بها أو كأنها لا تريد أن تغادر المكان.
رغم المرارة التي تجتاحني مازلت أقبض على حفنة التراب الهاربة من بين أصابعي، وبدّت حفنة التراب أكثر حنانا وأكثر دفئا في قبضتي وأكثر ألما وهي تهرب مني.
اكتسحتني ثورة عارمة، عرق ينز من جبيني وشفتاي عطشى، وحلقي ظمئ، ألثم حفنة التراب، أمرغ بها وجهي، ألوّنه وأنا ألثم وجعي، وأشم حفنة التراب بقوة، ثم لاحت أمامي صورة البطل الجزائري مصالي الحاج يحمل حفنة التراب قائلا:
-هذه الأرض ليست للبيع! 
وتذكرت طفولتي ولسان حالي يردّد:
ـ يا لي خيبة الذاكرة التي أحملها متعبة، كيف يمكن لي أن أرمّمها في عرائي الموحش، هي تختزن كل طفولتي وفرحي وحزني وعمري وعشقي، آه أيتها الذاكرة التي سترعبني في مشوار عمري القادم إن كان في العمر بقية، وتفرغني في حياة يتغير فيها الاحساس والزمن!
آه أيتها الذاكرة التي سرقت عمري في تجاعيد وجهي الأسمر وملامح أمي الحزينة، وتنتحر مع كل سيجارة أنفث دخانها في عتمة أيامي المتعاقبة، وقد كنتُ أنتظر مجيء الصباح بشغف كبير أن يمسح عن وجوهنا مسحة الحزن والكآبة والألم والتعب، كنتُ أنتظر ذلك كي تشعر أمي بدفء اللحظة وشمس غد مشرق أن تقبّل رأسها وتحنو عليها من قسوة الحياة، أذكر أنها كانت تلبس الجَلاَّيَة وهي جبة من نسيج قطني كان قد أهداها لها أبي يوم زفافهما وحذاء البابوج أو الشبشب. 
كنتُ أتأمل تلك الزركشة والألوان في لباسها وأمتلئ طمأنينة بأننا لم نُضيّع هويتنا فتجتاح أنفي روائح أعشاب برية تزين لذة الطعام وعطر التوابل المشرقية في أكلها الطيب.
تأملتُ أمي كثيرا وتجاعيد أبي وأنا أجوب أرجاء البيت غرفة غرفة وأتلمس الجدران جدارا جدارا وأقف في باحة المنزل متأملا الورود الجميلة وشجيرات النعناع و اللوز على جنباته تبعث عطرها الفواح في الفضاء، كأنها تودعنا برائحتها الزكية حتى تبقى في الذاكرة، وأتتبع خطى إخوتي وهم يتوجسون خيفة من رحلينا.
تأملت وجوههم وكأنني أتحدث إليهم وأدركت سر ريبتهم فنفضت عني هواجسي المرعبة وشعرت بموجة عارمة من الفرح الهيستيري وأنا أجتاح المكان في مخيلتي وأشرِّع أبواب الذاكرة الموصدة بالتوغل أكثر في المكان، أبحث فيها عن ملاذ من عرائي في المخيم.
قال لي أبي العكّاوي ذات مساء بارد:
-لا تكترث للطيور المهاجرة وتتألم لفقدها المكان، ستعود إلى أوكارها وبأسراب جديدة وبألوان مختلفة؟!
أبي العكّاوي هو الوجه الآخر للمكان هو روحه التي نفخت في روحي الهدوء. تمتمت أمي دون أن نسمع لها صوتا بكلمات مبهمة ولكنني أحسست أن إخوتي كانوا يسمعون ما تقوله، كلماتها الحارقة تبعث بوخزها في روحي وتؤلمني حد البكاء.
– ترى هل كان والدي يحاول اقناعي كي نكمل الطريق؟ 
-هل كان حكيما في قوله أو أنه أراد أن يبدّد مسحة الكآبة والحسرة التي اجتاحت حياتنا ويبعث السكينة في كهوف ذواتنا، ولكي يمنح أمي شعورا بالدفء أو يشعر إخوتي بغربة المكان الذي سنرحل إليه حتى لا ينسوا؟
قائلا:
-البيت الجديد يشبه بيتنا.
فردّت أختي الصغيرة فايزة:
– ولكن ..لا تسكنه ذكريات طفولتنا…أين كنا نلعب الغميضة يا غسان؟
ومازلت أنا الفتاة العاشقة، تحاصرني الأنغام الفيروزية بكثير من الشجن، أراقصها بألم دفين وقهوة سوداء من دون سكر، مشحونة بتوتري وقلقي واضطرابي، وقد كان المطر ينزل بغزارة، يكتبني كقصيدة دامعة على قلوب الضعفاء والحيارى، يسقي ينابيع الظمأ، يهدهدني على أرض جرداء، سرق من وجهها زينتها وألقها.
وكلما حاولت أن أنسى حزني خلف سجني المأفون، يأتي صوت أمي من بعيد يذكرني كلاجئة في العيد بلحظتي الخرساء.
“واليوم، ماذا غير قصة بؤسكن وعارها؟
لا الدار دارٌ، لا، ولا كالأمس، هذا العيد عيدُ
هل يعرف الأعياد أو أفراحها روحٌ طريد
عان، تقلّبه الحياة على الجحيم قفارها؟”
وفيروز مازالت تغني… سنعود …سنعود… 
سنعود لضيعتنا ولحقولنا ولطفولتنا، لصوتنا المبحوح على المآذن والمصلوب على المعابد، سنعود كحمائم العشاق لجنائـن الهديـل ولأعراسنا ولألحاننا الحزينة ومواويلنـا وأهازيجنا.
وتذكرت غادة حينما تقول:
ـ”إن الذاكـرة والألم توأمان، لا تستطيع قتل الألم دون سحق الذاكرة..”
ولكنني لم أستطع، ذاكرتي يا غادة هي كل آلامي التي أعود إليها من حين لآخر.
_____
*روائية جزائرية 
** من رواية تصدر قريبا تحمل عنوان ” نساء في الجحيم “.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *