فن المختارات.. ازدهر قديمًا ويكاد يموت حديثًا


*مريم مشتاوي


يقف القارئ أمام المكتبة العربية التراثية وكأنه أمام بحر من المختارات الأدبية. لماذا ازدهرت مثل هذه الكتب في الحضارة العربية الإسلامية بشكل لا مثيل له في غيرها من الحضارات، حتى يخيل للمرء أن العرب والمسلمين لم يكتبوا الأدب أصالة بقدر ما اختاروا أمثالاً وأشعارًا وحكمًا وأقوالاً يضمنونها كتبهم؟ كيف يمكن لكتاب لا يحتوي على أي عبارة جديدة أن يكون أصيلاً ومبتكرًا وأن يخدم أغراضا أدبية وآيديولوجية وسياسية؟ كيف عمل العلماء العرب والمسلمون على كتبهم هذه؟ كيف جمعوا أقوالاً وغربلوها ورتبوها وعلّقوا عليها؟
هذه الأسئلة الصعبة هي موضوع كتاب جديد للباحث اللبناني بلال الأرفه لي، صدر بالإنجليزية عن دار نشر «بريل» المرموقة بعنوان The Anthologist’s Art. والكتاب دراسة معمقة عن صاحب التأليفات الكثيرة في الأدب العربي، أبي منصور الثعالبي، المتوفى سنة 429 هـ، مع التركيز على كتابيه المشهورين «يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر» و«تتمّة اليتيمة». يسبق ذلك دراسة مطولة عن فن الاختيار في الأدب العربي عامة، من المعلّقات حتى سقوط بغداد في يد المغول، هذا الفن الذي يكاد يختفي للأسف في عصرنا الحالي.
يشكّل الكتاب، إذن، نافذة على فضاء أديب إسلامي متميز، عاش في القرن الرابع وأوائل القرن الخامس للهجرة، في نيسابور الخراسانية، وتنقّل في أرجاء العالم الإسلامي، لكنه رفض أن يكتب بغير العربية، فجاءت كتبه احتفالاً بالثقافة والأدب العربيين في بلاد ما وراء النهرين.
ينفذ الكتاب إلى مشغل الثعالبي الأدبي، ويوثق وعيه المنهجي في الاختيار والتأليف عبر تتبع مقدّمات الثعالبي وأسانيده وإحالاته في كتبه كافة، ليشرح لنا كيف جمع هذا الرجل المعلومات ودوّنها ووثّقها وحفظها وغربلها وساءلها ورتّبها أثناء تأليفه لكتابه الضخم «اليتيمة». والكتاب يشكّل بانوراما عن الأدب العربي في القرنين الرابع والخامس الهجريين، من أقصى خراسان شرقًا حتى الأندلس والمغرب العربي غربًا، ويعكس تنوّعات الفترة الطبقية والثقافية والفنية والاجتماعية. ففي ثناياه يأخذنا الأرفه لي في جولة إلى قصور الصاحب بن عبّاد وابن العميد والمهلبي وسيف الدولة وعضد الدولة، ويشرح لنا كيفية تباري الشعراء والكتّاب في دخول هذه القصور وطريقة عيشهم فيها، وعلاقتهم بالوزراء والأمراء، صداقاتهم وعداواتهم، إنجازاتهم وإبداعاتهم، إخفاقاتهم وسرقاتهم، وكيفية تنقّلهم بين القصور وأسباب ذلك. وفي الوقت نفسه يجول في أسواق خراسان وبغداد والري، ويناقش أدب عشرات الشعراء المغمورين ممن أهملتهم كتب الأدب. يسهب الأرفه لي في الحديث عن التكتّلات الأدبية في تلك الفترة، وعن طريقة تعلّم الأدباء مهنهم الأخرى إلى جانب الأدب، ويضيء على السياقات التاريخية والثقافية والأدبية والجغرافية للأدب في تلك الفترة.
يخصص الأرفه لي فصلاً خاصًا عن الثعالبي، حياته وإرثه الأدبي الضخم، وكيف أثّر في كتب الاختيارات الأدبية، حتى بدايات العصر الحديث. فيجد الباحث نفسه أمام مئات المخطوطات والكتب المنسوبة للثعالبي في المكتبات العالمية، فيقف حائرًا أمام ما كتب هذا الرجل وما نُسب إليه زورًا أو خطأً. ومن هنا، يعكف الباحث على مراجعة معظم ما نُسب للثعالبي من كتب فيمحّص ويوثّق ويبوّب، ويكتشف أثناء ذلك عددًا مهمًا من الكتب التي عُدّت في باب المفقود أو التي لم تكن معروفة مقدّمًا، خدمة كبيرة للباحثين والمهتمّين بالأدب العربي. وقد خصّص الأرفه لي أيضًا فصلاً هامًا عن مصادر الثعالبي المسموعة والمكتوبة، فيثبت عودة في القرن الرابع الهجري للشفاهة عوضًا عن الكتابة التي شاعت في القرن الثالث الهجري. يعود ذلك إلى أن الثعالبي كان مهتمًا بأدباء عصره الذين لم يتركوا إرثًا مكتوبًا أو الذين لم يكن أدبهم قد جمع بعد. ومن خلال تتبع مصادر الثعالبي يكشف الأرفه لي عن كوكبة من الرجال الذين شكّلوا شبكة أدبية لنقل الأدب بين أرجاء العالم الإسلامي في تلك الفترة.
أمّا الفصل الأهمّ في الكتاب برأيي، فهو الفصل الأول الذي خصّصه الأرفه لي لمناقشة فن الاختيار في الأدب العربي، ودوافع العلماء في لجوئهم لمثل هذا النوع من الكتابة. يناقش الأرفه لي أيضًا مصطلحات «المجموع»، و«الاختيار»، و«الديوان»، و«الحماسة». ويرى أن عملية اختيار النصوص الأدبية وجمعها كانت أمرًا شائعًا بين الأدباء، بل كانت نشاطًا رئيسيًا مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بمفهوم «الأدب». والأدب هنا بحسب الأرفه لي يشكّل نوعًا خاصًا من أنواع التربية، فهو منهاج أخلاقي وفكري موجّه إلى طبقة اجتماعية حضرية ويعكسُ حاجاتها وتطلّعاتها. وهنا نرى أن مضمون الأدب لا يعتمد على ميزته الجمالية فحسب، بل يتعدّاه إلى دور النص الأدبي في الخطاب الاجتماعي. ويشير إلى أن المختارات قد تبدو لبعض الناظرين فيها أعمالاً مكرورة تنقصها الأصالة والابتكار. ولكن أصالة عمل أدبي معين تكمن في اختيار النصوص المستنسخة وترتيبها، مما ينم عن اهتمامات المؤلف الشخصية أو غرضه من التأليف. وبالتالي، فإن السياق الذي تُذكر فيه العبارة أو الخبر الأدبي يعزِّز المعنى و- أو يغير وظيفته. والمادة المتضمنة في كتب الاختيارات، وإن لم تكن من تأليف المصنف، فإن مفادها الأول تثبيت رؤية معينة خاصّة به.
الكتاب الذي بين أيدينا دراسة جادة ومتأنية وعميقة، ستترك ولا شك أثرًا كبيرًا في الدراسات العربية، فهي تطرح وتعالج عددًا كبيرًا من الأسئلة الأدبية والثقافية، وتفتح الباب أمام عدد جديد من الأسئلة المتعلّقة بالأنواع الأدبية العربية القديمة، وطرق التأليف العربية، وعلاقة الأدباء بالقصور، ورحلاتهم الأدبية والمهنية، وتذوّق الأمراء والوزراء والنقّاد والأدباء للأدب في القرنين الرابع والخامس الهجريين. 
____
*الشرق الأوسط 

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *