عبقرية شكسبير: أقدارنا المرهونة بلعبة الأشباح والشياطين


*أوس حسن


يعتبر أدب شكسبير، وخصوصاً مسرحياته التراجيدية البذرة الأولى لنشأة الأدب السايكولوجي في العالم. كان المدرسة المتفردة التي انطلقت منها الآداب والفنون والمذاهب الفلسفية في أوروبا، التي اهتمت بمعالجة الهم الإنساني وإشكالية وجوده على هذه الأرض، من خلال صراع التناقضات والثنائيات داخل النفس البشرية.
أعمال شكسبير كانت الملهم الأول لأدب غوته ودستويفسكي وتشيخوف وفيكتور هوغو ودي موباسان وفرانز كافكا، فضلا عن كونها نموذجا تحليلياً لمدرسة فرويد النفسية واهتمامها بالرموز والصور المختبئة في طبقات عميقة من اللاوعي الإنساني.
مروعة «ماكبث وهاملت» وسلسلة جرائم
تعتبر شخصية هاملت شخصية محورية تجسد الصراع بين رجل أخلاقي في مجتمع لا أخلاقي، عكس ماكبث الذي يتحول من رجل نبيل وشجاع تقوده طموحاته وأهواؤه إلى التحول لشخص سفاح ومجرم، في مجتمع تحكمه الفضيلة والأخلاق المسيحية.
هنا تكمن مأساة الشر الذي يحاول دائماً أن يبرر أفعاله، من دون أن يدرك ولو بشيء بسيط حجم الأهوال والكوارث التي تسبب بها. الشر غالبا ما تجد له مبررات ومؤيدين يزينون له سوء العواقب، وهذا ما نجده ظاهراً ومتحققاً في مسرحية «ماكبث».
تعتبر مسرحية «ماكبث» من أكثر مسرحيات شكسبير عنفاً ودموية، كتبت تحت إشراف ملك إنكلترا جيمس الأول وتخليدا لذكرى اعتلائه العرش، وهو أيضاً من سلالة القائد الإسكوتلندي «بانكو« صديق ماكبث وأحد الشخصيات الرئيسة في المسرحية.
تتلخص القصة حول القائد الإسكوتلندي ماكبث الذي يقتل ملكه دانكن طمعاً في العرش والسلطة، وكان ماكبث من رجال الملك المقربين؛ لما يتمتع به من شرف وشجاعة وحظوة عند الملك، وعند عودته من أحد المعارك منتصراً مع صديقه بانكو، تصادفه ثلاث ساحرات بجلود شاحبة ومظاهر غريبة، وتنادينه باسمه وتتنبأن بأنه سيصبح ملك إسكوتلندا، وتنبأن لبانكو بأنه لن يتولى العرش أبداً، لكن أبناءه سيصبحون ملوكاً في ما بعد.
وعندما يروي ماكبث هذه القصة لزوجته الليدي ماكبث، تكبر الفكرة في رأسها وتبدأ بتحريضه على قتل الملك ومساعديه، وكل من يمكن أن يصبح وريثاً مستقبلياً للعرش، لتبدأ بعدها سلسلة من الجرائم المروعة.
يتحول فيها ماكبث من فارس نبيل وشجاع إلى مجرم وجزار يستلذ بشرب دماء أعدائه ومناوئيه الحقيقيين أو الوهميين. إن عقدة الشعور بالذنب تصيب ماكبث في بادئ الأمر، حيث تتراءى له أشباح من قتلهم، أما زوجته الطامحة والطامعة فتستمر في قسوتها، والإلحاح عليه بالمضي بحمام الدم، حتى يتسنى له الراحة والاستقرار على عرشه. لكن تغييراً مفاجئاً يحدث للسيدة ماكبث، فتصبح غير قادرة على النوم ليلاً، وتبدأ في النهوض من نومها، لتغسل يديها في الحمام وهي تهذي وتهلوس. تزداد الوساوس والهواجس التي تصيب الليدي ماكبث حتى تفقد عقلها وتنتحر في نهاية المطاف. وتنتهي المسرحية أخيراً بقتل الطاغية ماكبث بسيف مكدف أمير فايف الذي فر هرباً إلى إنكلترا وجاءها مع جيش عرمرم لينتقم لمقتل زوجته وأطفاله على يد ماكبث السفاح في مشهد تراجيدي مؤثر يصفه لنا شكسبير بدراية الفنان والفيلسوف الذي خبر الحياة بكل مصائرها وتقلباتها.
إن الهلوسة التي تصدر عن المجنون أو النائم في حلمه هي ذاتها، ومنبعها اللاشعور وهو عبارة عن الحوداث والصور التي مرّ بها الشخص في حياته الماضية، من دون أن يشعر بها، أو مجموعة من الدوافع الغريزية المكبوتة التي أبعدها الشخص عنه وقاومها؛ لأنها لا تتماشى مع قيمه أو قيم المجتمع، وقد آن الأوان لتطفو على سطح الوعي وتكون لها تمثلات عديدة من أهمها العنف والجريمة، هذا ما تؤكده لنا شخصية الليدي ماكبث في المسرحية، وهذا ما أكده لنا فرويد أيضاً من خلال قراءته وتحليله للتراث الأدبي والتاريخي، وهو القائل: «إن الشعراء والفلاسفة من قبلي اكتشفوا اللاشعور. أما أنا فاكتشفت الطريقة العلمية التي بواسطتها نستطيع دراسة اللاشعور».
أما في مسرحية «هاملت» (أمير الدنمارك) يقع هاملت فريسة لفكرة الانتقام التي سجنته طويلاً وجعلت شخصيته مترددة ومرتبكة، من خلال تجلي شبح والده له وإخباره حقيقة موته على يد عمه كلاوديوس (الملك الحالي) وخيانة أمه «غروترد» وزواجها من عمه، فيطلب منه الانتقام لمقتله، فيقوم هاملت بسلسلة تصفيات دموية للعائلة المالكة، تنتهي بمقتله ومقتل جميع أفراد الأسرة المالكة، حيث يقتل هاملت في مبارزة مع خصمه لارتيس شقيق حبيبته أوفيليا، بعد أن يجرح بسيفه المسموم، ويقتل الملك أيضاً الذي دبر هذه المؤامرة لقتل هاملت، وتشرب غروترد السم، لتتنهي المسرحية بموت جميع أبطالها، هذه المجازر الدموية تجدها حاضرة في أغلب مسرحيات شكسبير، فالجريمة في مسرحيات شكسبير لها دلالاتها العميقة والغامضة، فالإنسان الذي تطوح به الرغبات والشهوات، يقع صريع الأوهام والأمراض الاجتماعية؛ يكون قريباً جدا ً من الجريمة إذا توفرت له الأسباب لذلك.
إن الاستعداد الوراثي والحالات العقلية المتطرفة التي يمر بها الإنسان نتيجة ضغط المؤثرات الخارجية، تساعدان على ظهور نزعة العنف المستترة تحت طبقات الوعي بشكل تدريجي تتمظهر في الأنماط والسلوكيات الشاذة التي تتخذها الشخصية خلال مراحل حياتية مختلفة إلى أن تنتهي بإفناء الذات أو الآخر. 
إن أفكار هاملت المشتتة والسوادوية تظهره في مشاهد عديدة من المسرحية، بأنه مجنون وغير متوازن، والذي يؤدي لقلق حبيبته أوفيليا وحزنها، أوفيليا التي تعتبر رمزاً للبراءة المفقودة في عالم تتصارع فيه الرغبات والشرور، أوفيليا خطيبة هاملت الذي لم يطهر الحب قلبه للصفح عن أعدائه، فكانت أوفيليا التي تعشق الشعر والموسيقى والورود ضحية هذا العالم البائس والمضطرب، بعد أن أصابها الجنون وأغرقت نفسها في البحيرة؛ لأنها لم تستطع إنقاذ هاملت بالحب، فأشاح بوجهه عنها واستمر في مشروعه الانتقامي في القتل والتدمير، إلا أن جنون هاملت لا يخلو من حكمة عميقة، وحب للخير والفضيلة، لكن الرغبات المكبوتة لدى هاملت تأخذ مداها الطويل، لتنفجر على شكل جريمة أو سلسلة جرائم سببها الكبت والمثالية المشوهة، حيث تمارس الأسرة والمجتمع هنا دور الجلاد الذي يقمع هذه الرغبات.
يقول فرويد في تحليله لشخصية هاملت، إن شبحه ما هو إلا تجسيد لرغبة هاملت الطفولية في قتل أبيه، وهاملت كغيره من الذكور البالغين لا بد أن يكون قد مر بمرحلة «عقدة أوديب»، والشبح الذي يظهر لهاملت هو تحقق لرغبة هاملت الطفولية المبكرة في قتل أبيه، والزواج من أمه ويصبح الأب في هذه الفترة غريم الابن في حب الأم وعواطفها، وعندما يمر الابن بمرحلة الخوف من الخصاء يجبر على التخلي عن هذه الرغبة المحرمة فيتماهى الأب والابن ليصبح الأب مثالاً أعلى للابن، يقول كاتب السيرة الذاتية لفرويد المحلل النفسي الإنكليزي «ارنست جونز» أثناء تحليلاته لمسرحية هاملت: إن هاملت لم يشأ أن يقتل كلاوديوس في بادئ الأمر؛ لأنه فعل الشيء ذاته الذي أراد الابن بلاوعي فعله، فعقدة الشعور بالذنب تدفعه للانتقام من كلاوديوس، لكنه يحجم في بادئ الأمر؛ لأنه في قتل كلاوديوس سيقتل نفسه، ليتوضح لنا أخيرا ومن منظار سايكولوجي دقيق إن الشبح الذي كان يظهر لهاملت هو اللاوعي المكبوت والمقموع عند هاملت.
وربما نحيل اختلال شخصية هاملت واضطرابها بين العبقرية والجنون إلى مرض نفسي يصيب المبدعين وهو «الاضطراب الوجداني ثنائي القطب»، أو الهوس الاكتئابي وهو مرض تتناوب فيه فترات من الكآبة والأفكار السوداوية مع فترات من الابتهاج غير الطبيعي والتي تختلف عن الابتهاج الطبيعي، وتؤدي هذه الأعراض إلى قيام الشخص بأفعال طائشة غير مسؤولة وإلى التبدل المفاجئ للمزاج، وأحياناً الى شعور الشخص بالانتحار وإنهاء حياته.
الابن النجيب
تكمن أهمية وعبقرية شكسبير في أنه الابن النجيب لعصر النهضة الأوروبية في الأدب والفن، فأعماله صالحة لكل زمان ومكان، ولكل المجتمعات باختلاف ثقافاتها وتاريخها ومعتقداتها، فمن خلال اعتماد شكسبير على العواطف والأحاسيس الإنسانية النبيلة، كان يحاكي قوى الخير والفضائل في دواخلنا، التي هي بالأصل وليدة النشأة الطبيعية السوية عند الإنسان.
إن عالم التناقضات الذي يلجه شكسبير داخل الإنسان عن طريق دوامة الجدليات والصراعات بين العواطف والغرائز والطموح والأهداف توضح لنا مصير الفرد المرتبط بشقائه أو سعادته في هذه الحياة. فمسرحيات «هاملت وعطيل والملك لير» هي تجليات واضحة للخطيئة المرتبطة بالحسد والغيرة والانتقام والجريمة وحب السلطة والمال، والتي تؤدي إلى الشقاء والهلاك وفقدان الإنسان لإنسانيته وسموه الروحي. يطرح شكسبير في معظم أعماله الإشكاليات التي تظل مفتوحة على أسئلة من دون إجابات واضحة ومحددة، فحياته الأدبية مرًّت بعدة مراحل حتى بلغت عمقها السايكولوجي والميتافيزيقي، فاستحضار قوى ماوراء الطبيعة في مسرحيات شكسبير كالأشباح والشياطين، تبين لنا سلفا بأن أقدارنا مرهونة بفكرة غامضة وراء عالمنا المادي المحسوس، وهي فكرة قديمة قدم الإنسان الذي كان يلجأ لتفسير الظواهر الغامضة والمحيرة في الطبيعة بإحالتها إلى الخوارق والمعجزات وابتكار الآلهة. 
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *