هيرودوت..والعرب



*حنا عبود


لا نشك في زعامة الإغريق في أشياء كثيرة، ولكن علينا الحذر من إغفال الموقف النقدي في الأحكام التي يصدرها الباحثون، وعندما اتخذت «الوضعية المنطقية» موقفاً نقدياً من فلسفة أرسطو، أظهرت أن الكثير من استنتاجاته مبتور أو مغلوط.
أما هيرودوت فلا شك أنه من كبار المؤرخين الأوائل في العالم (وهم لا يتجاوزون السبعة) ولا شك أنه عظيم جداً عندما يسرد، فهو لا يتحمل مسؤولية أي رواية لم ترها عينه، وقد تفوق عليه توسيديدس في هذا المجال، إنه يصمد أمام النظرة النقدية في كل ما كتبه في تاريخه أكثر من هيرودوت.
ولو أردنا اختيار أب للتاريخ عند العرب لاخترنا المسعودي، إنه هيرودوت العرب، قام برحلات وروى حكايات على ذمة الراوي، وشملت أبحاثه الفنون الجميلة وبصورة خاصة الموسيقى، وهذا ما لم يفعله مؤرخ في العالم القديم والوسيط على ما نظن. فهناك شمولية في تصوير نشاط الشعوب وممارساتها اليومية في الأدب والعلم والفنون.. وقد يظهر عندنا من ينتقده كما انتقد دافيد بايبس هيرودوت في كتابه «هيرودوت أبو التاريخ وأبو الأكاذيب».
ولكن لندع هذا ولنعد إلى هيرودوت اليوناني، لنقرّ أن له سرداً دقيقاً ورائعاً في كثير من الأحيان، حتى بات مرجعاً لكثير من الكتاب، ولنرى أن له تعميمات ذاتية لا تستند إلى المؤكدات اللازمة الموضوعية التي تصدق في مجملها على مدار التاريخ، أو على الأقل، تصدق على الحقبة التي عاش فيها هيرودوت نفسه.
حكم أليم لتعميم قديم
في القرن الخامس قبل الميلاد ظهر كتاب هيرودوت، أراده كتاباً عالمياً، فكان له ذلك في حدود العالم الذي يعرفه هو، فجال في جنوب أوروبا والبحر الأسود وحدثنا عن الأمازونات، وبلاد الشام وبلاد الرافدين والجزيرة العربية ومصر وليبيا أو شمال إفريقيا، هذا هو عالمه، العالم المعروف في تلك الحقبة.
يبدأ الشرق عند هيرودوت من الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط وحتى أواسط آسيا. وأول نظام إمبراطوري يصادفه هو النظام الفارسي، بعد أن زار مصر وليبيا، أما بلاد الشام فلم يكن يحسب لها حساباً، لأنها واقعة بين إمبراطوريتين قويتين: الفارسية والمصرية، وكانت الإمبراطوريتان إذا تحاربتا جعلتا بلاد الشام ميدان معركتهما، ولذلك لم تقم إمبراطورية في بلاد الشام على مدى التاريخ، على الرغم من عدة محاولات، من أهمها محاولة الملكة العربية زنوبيا، التي جمعت حولها كل القبائل المستوطنة في الجزيرة والفرات، وفشلت المحاولة كغيرها، ومن هنا كان الموضوع الأكبر الذي تريث عنده، والذي منه قام بالتعميم هو الإمبراطورية الفارسية.
وفي العلوم الاجتماعية يأتي التعميم عادة إما من الظواهر المتكررة، أو من الموقف العاطفي، وطنياً كان هذا الموقف أو ذاتياً، مستقلاً أو تابعاً.. ولا نظن أن هيرودوت لاحظ ظواهر متكررة في بلدان الشرق التي درسها، وإنما دفعه موقفه الوطني إلى هذا التعميم، مما جعله يهمل طبيعة الشعب العربي في جزيرته العربية، فلا يقدم وصفا لطبيعة النظام القائم فيه، ولا لعلاقاته الاجتماعية على غرار ما فعل في بابل، حيث وصل إلى حد وصف العادات الاجتماعية في الزواج… الخ.
الحكم المبرم
أصدر هيرودوت حكماً صحيحاً مبرماً كقاعدة ينطلق منها الباحث، معتمداً على ما لاحظه في بلاد فارس.. يقول هيرودوت: «الطاغية يفسد القوانين القديمة فيغتصب النساء ويقتل الرجال بلا محاكمة، ولكن شعباً حاكماً – أولاً يكون محمود السيرة؛ وثانياً لا يوجد شعب يقوم بهذه الأشياء». ولما أراد من الواقع أمثلة عن الاستبداد لم يجد سوى «الفرس» أو بالأحرى «النظام الفارسي»، الذي اكتفى أسخيلوس في معالجته له بإظهار شجاعة هؤلاء المحاربين، من غير أن ينطلق من النتيجة التي توصل إليها هيرودوت.
لا ينطبق هذا الحكم المبرم على العرب، ففي كل ما وصلنا من تراث لم نجد فيه ما ينطبق على «النظام العربي» كما ينطبق على النظام الفارسي.
وقد امتد تأثير هيرودوت حتى العصر الحديث، فالباحثة الأميركية إديث هاملتون في كتابها «الأسلوب اليوناني» ترى الشرق من منظار مؤرخها الأثير الذي ركز بؤرته على فارس، وتأتي بالأمثلة التي أوردها، ونكتفي بمثالين:
1- قام الملك الفارسي بحملة على اليونان. وفي مروره ببلاد ليديا يستضيفه غني من أغنيائها الكبار، هو وكل من معه من ضباط وجنود وحرس وحاشية، وأثناء المأدبة طلب منه أن يترك له ابنه في البيت ليكون عوناً له في شيخوخته، فلا يأخذه معه إلى محاربة اليونان كإخوته الأربعة.
اعتقد الرجل أن ابنه سيظل يخدمه عندما سمع العاهل الكبير يوافق على بقائه، ولما تحرك الجيش، سار الجميع يكملون طريقهم وبقي الابن الذي رجا الرجل ملك فارس أن يبقيه له، ولكن بعد أن شقّ الطريق نصفين، ومرّ الجيش الجرار بينهما، انتشر قتل الابن ووصلت الرسالة الملكية، التي تحمل أمراً مفاده: المفروض ألا يُطلَب من الملك مثل هذا الطلب، لأن الجميع يجب أن ينصاعوا للأوامر… .
2- حظي أحد الأغنياء بعطف ملك الفرس فترة من الزمن، ولكن الملك أشاح بوجهه عنه، فعرف أنه غير مرغوب فيه، فطلب الصفح والعفو، فدعي إلى مأدبة، وقدمت له اللحوم، ولما انتهى من تناول الطعام، سأله الملك إن كان يعرف أي نوع من اللحوم تناول، فقال بأنه لا يعرف، فجيء إليه بقدر مغطى. كشف الغطاء فإذا رأس ابنه. فسأله الملك «هل عرفت الآن؟» فأجاب بأنه عرف «وما يفرح قلب الملك يفرح قلبي».. وبذلك فهم الرجل كيف تكون العبودية المطلقة.
ما وراء الحُكْم
بين معركة الماراثون (والأمثلة المقتبسة تقع في ظروف التعبئة لهذه الحرب) وولادة هيرودوت ست سنوات، وهي مدة تكفي لتحويل المعركة إلى المصنع الأدبي، فأحد الجنود المقاتلين (أسخيلوس) كتب عن هذه المعركة مسرحية «الفرس» التي تعتبر من أجود مسرحياته، كما تناول غيره هذا الموضوع. ولا يمكن لمعركة أن تصبح رمزاً وطنياً ما لم تخرج من مطبخ الأدب. من دون الجمال الأدبي لا يمكن لشيء، مهما كان هاماً ومفيداً وعظيماً ومؤثراً، أن يشيع بين الناس، ومن هنا نفسر اهتمام هيرودوت بمعركة الماراثون، حتى كاد يجعلها قطعة أرجوانية يفوح منها عبير الأدب الجميل.
بالمقابل عندما تحدث عن الفرس أظهر كل مساوئهم بإسهاب بينما صمت عن بقية الشعوب، يبدو أنه كان يكتب وقلبه ممتلئ غيظاً من أولئك الذين دمروا المدن اليونانية على سكانها، وهو يرى أن الحرب الفارسية على اليونان حدثت لأن المستعمرات اليونانية التابعة لحكم ملك فارس لا تخضع لحكامها ولا تقبّل أيديهم وأرجلهم، كما جرت العادة في فارس، فاشتد العسف وتفاقمت المظالم فثار السكان فهبّت أثينا إلى مساعدة أبنائها، مما جعل ملك الفرس يجهز حملة بلغت مليون محارب، ومع ذلك دحره اليونان، ويقال إنه مات قهراً، وتفسر هاملتون ذلك بأن الحرية هي التي انتصرت على العبودية، وهذا ما لا نجرؤ على تطبيقه على حروب كثيرة، كحروب كريستوفر كولمبوس الذي أباد شعوباً بكاملها، وكانت بكامل حريتها.
وتجاري الآنسة هاملتون هيرودت، فتقول: «الطاغية لا يُعرف إلا في الشرق» ولا حاجة إلى دحض حجتها بتقديم أسماء الدكتاتوريين من أيام بيسيستراتوس حتى أيام هتلر. فهي الأخرى انجرفت مع هيرودوت، الذي لم يمكث في بلد من بلدان الشرق، ولا أوْلى طاغية من طغاته اهتماماً مثلما مكث عند الفرس وأولى أكبر اهتمام لطاغيتهم.
العربية
كلمة (الأرابيا) عند الأوروبيين تعني الجزيرة العربية، وفي الكتاب الثالث الذي اختار له اسم (ربة الكوميديا والشعر الرعوي) يتحدث عن الجزيرة العربية، من غير أن يتريث كثيراً عند أنظمتها السياسية، فيتحدث عن آلهتها وما يقابلها عند الإغريق، وعن التقاليد والعادات، ولكنه لا يأتي على ذكر الحروب.. والجزيرة العربية بقعة نادرة في العالم العربي، فلم يدخلها أجنبي غاصباً، ولا عرفت أي نوع من أنواع الحكم التي عرفتها شعوب الشرق، ولم تقع حروب بينها وبين الأجانب، ولم تقع في الخراب والدمار نتيجة خوض الآخرين حروباً على أرضها – كما حدث مع بلاد الشام مثلاً – التي كانت – ولا تزال حتى اليوم – ساحة تتحارب على أرضها مصر وفارس. عاشت هذه البقعة حرة، وكان النفوذ الأجنبي لفارس وبيزنطة مقتصراً على بعض المناطق الشمالية فقط. وربما كانت الجزيرة العربية البقعة الوحيدة التي لم تعرف الوجود المباشر للأجنبي على أرضها، ولهذا كانوا يتخلصون من الطغاة بصورة عاجلة، فبنو أسد قتلوا والد امرئ القيس لظلمه، وعمرو بن كلثوم قتل عمرو بن هند، لا لشيء إلا لمحاولة أم عمرو بن هند الحط من كرامة أم عمرو بن كلثوم فقط، والشعراء الصعاليك تمردوا ليس على طاغية، بل على تقاليد قبيلة بكاملها، فقاوموا الاستبداد الطبقي، ولم يهبوا ضد طاغية بعينه.
ولامية العرب لا تبدي سخطاً على طاغية بل على ظلم الأهل (أقيموا بني أمي صدور مطيكم)… والأمثلة كثيرة. وما قاله عمرو بن كلثوم:
وَنَشرَبُ إِن وَرَدنا الماءَ صَفواً
وَيَشرَبُ غَيرُنا كَدَراً وَطينا
إِذا ما المَلكُ سامَ الناسَ خَسفاً
أَبَينا أَن نُقِرَّ الذُلَّ فينا
وأيام لنا غر طوال
عصينا الملك فيها أن ندينا
ينطبق على الجزيرة وما جاورها، فالعرب من بين تلك الشعوب لم تعرف كدر الشعوب الأخرى ولا طينها، وشرط الملك العدل، وإلا لاقى ما لاقاه عمرو بن هند. إن العرب من بين شعوب المنطقة لا يتصورون أن من الممكن لنظام كالنظام الفارسي أن يناسبهم، ولهذا انتصروا في معركة ذي قار انتصاراً تستطيع الآنسة هاملتون أن تسميه معجزة، تماماً كما سمت انتصار اليونان على الفرس بالمعجزة التي حققتها الحرية على العبودية، ونظن أن هذا العشق للحرية هو ما أبعد الأجنبي عن العربي، لا الصحراء ولا غير الصحراء.
______
*الاتحاد

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *