المنائر



*يسري عبد الغني عبد الله


خاص ( ثقافات )

المنارة في اللغة :
في لغتنا العربية الجميلة : النور هو الضوء ، أو ما يسطع ليبين الأشياء ، أو يعرف الأبصار حقائق الأشياء ، ونور الشيء أي أضاءه وأظهره ، وجعلنا نعرف حسنه وندركه ، ونور المكان أي بينه ، ونور على فلان أي أرشده وبين له الأمر على حقيقته ، واستنار أي أضاء أو أصبح واعيًا فاهمًا ، واستنار برأي فلان أي اهتدى به ، والمنار موضع النور أو العلم في الطريق ، وقد تسمى المئذنة منارة ، والمنارة أيضًا هي موضع أو منطلق النور أو الضوء الذي يهدي السائرين في البحر ، والمعنى الأخير هو الذي يهمنا في هذه السطور .

حتى نميز بين البحر والأرض : 
تصور معي أننا وقوف على جسر سفينة تعبر قناة معينة في وقت الليل ، إن الظلام يحيط بنا تمامًا بحيث لا نستطيع أن نميز بين البحر والأرض ، إلا أنه يمكننا أن نرى هنا وهناك ، عند الأفق ، نقطًا صغيرة من الضوء ، تومض وتختفي بانتظام ، إنها المنائر ، ومن الخرائط المبسوطة عند الجسر الخاص برسو السفن يمكن أن نتعرف على كل منارة منها عن طريق طول ومضاتها والفترات الزمنية بينها ، وعلى ذلك ، فبمراقبة اتجاه هذه الأضواء المميزة ، يمكننا أن نحدد بالحساب مكاننا ، والاتجاه الذي نسير فيه . 
ما هي المنائر ؟ :
تؤكد الدراسات على أنه في بريطانيا ، وحتى نهاية القرن العشرين ، كان يوجد حوالي 400 منارة رئيسية أرضية ، وسفينة منارية ، حول الشواطئ الإنجليزية ، وكذلك حوالي 1000 منارة ثانوية ، والكثير منها أضواء شاطئية مشيدة على الصخور أو النتوءات الجبلية البحرية ، مثل : بيتشي هايد ، وساوث فور لاند ، ولكن بعضًا منها مشيد في داخل البحر على صخور ترتطم بها الأمواج ، وتشمل منائر عظيمة لها أسماء شهيرة ، مثل منارة إديستون ، التي تبعد حوالي 22 كيلومتر من بليموث ، وبلروك ، وولف روك .
وهذه المنائر أبراج عالية مشيدة من الخرسانة أو أحجار البناء ، وتبنى غالبًا على صخور تغمرها المياه في فترات المد العالي ، وفي قمتها توجد الأضواء العظيمة التي تبعث بحزم ضوئية دوارة تنير أرجاء المنطقة البحرية لعدة كيلو مترات من حولها .
ويمكن إنتاج الضوء بحرق الزيت في حراقات متوهجة ، ولكن يتزايد حاليًا استخدام الكهرباء المتطورة أو أشعة الليزر ، كما كانت المنارات المنعزلة تزود بوحدات الديزل أي المولدات الكهربائية ، كما توجد مصادر بديلة للضوء في حالة انقطاع التيار الكهربائي ، والمصدر الضوئي محاط بعدسات ومنشورات هائلة ، تكسر الضوء وتعكسه وتركزه في أشعة يمكن رؤيتها على مسافة 35 كيلو مترًا .

ويوجد عدد كبير من المنائر البحرية في مناطق مختلفة من العالم يستحيل أن يعيش فيها حراس المنائر ، وهي منائر تعمل آليًا أو أوتوماتيكيًا ، وتشتغل إلى ما قد يصل إلى 12 شهرًا دون أدنى حاجة لرعايتها .

وبوجه عام يمكن القول أن المنارة إذا نظرنا إليها من أعلى إلى أسفل ، فهي تتكون من : مانعة الصواعق ، غرفة الضوء ، الضوء الدوار أو دوارة الضوء ، الشرفة ، جهاز إنذار الضباب ، الآلية التي يدار من خلالها الضوء ، السلم الحلزوني ، مخزن المنارة ، منزل الحارس .
أنواع المنائر :
للمنائر أنواع ، منها : 
1 ـ منائر الشواطئ ، وهذه تشيد غالبًا على مواقع عالية ، فوق الصخور أو النتوءات الجبلية في البحر ، حتى يمكن مشاهدة الضوء من مسافة بعيدة ، ويعيش حراس المنارة في بيت ملحق بها . 

2 ـ المنارة المنعزلة ، وهي تشيد إما على صخور محاطة تمامًا بالمياه التي تغمرها في فترات المد العالي ، وتتعرض للرياح العاتية ، وإما تشيد على جزر صغيرة .
3 ـ منائر الموانئ ، تقوم على مداخل الموانئ (البوغاز) ، ولا يكون الضوء في علو أو قوة منائر الشواطئ أو المنائر المنعزلة ، إذ ليس من الضروري أن تراها سوى السفن المقتربة من الشاطئ لتدخل الميناء .
4 ـ سفن المنائر ، وهذه سفن تلقي مراسيها بصفة دائمة في المناطق التي يستحيل تشييد منائر فيها ، كما هي الحال مثلاً حول حوافي (جودوين ساندز) البريطانية ، وهي تحمل ضوءًا مثبت على أعلى برج ، أو صارٍ أجوف مصنوع من الفولاذ ، ويتكون طاقم السفينة المنارية من عدة رجال ، والحياة التي يعيشونها تحفها أخطار وصعوبات عظيمة ، حيث يجب أن تجتاز السفينة أعتى الأعاصير بسلام .
لماذا تشيد المنائر ؟
بالطبع لا حاجة لوجود المنائر في عرض البحر ، إذ يمكن توجيه السفن باستخدام الحسابات الملاحية العلمية المعروفة ، وبواسطة الرادار ، ولكن المنائر عون بالغ الأهمية لأي نشاط ملاحي في المياه الضحلة أو الخطرة ، ويمكن أن نوجز أسباب إنشائها فيما يلي : 
1 ـ في مداخل الموانئ ، لترشد السفن إلى موضع المدخل .
2 ـ على الصخور ألناتئة والرؤوس الداخلة في البحار ، حتى تتجنبها السفن .
3 ـ على الصخور الغاطسة أو المغمورة بالمياه ، التي يصعب تجنبها بالقيادة الملاحية ، إذ قد تتحطم أية سفينة تصطدم بها .
4 ـ على المياه الضحلة الخطرة ، حيث يمكن أن تشحط أو تنحرف عليها السفن ، وتستعمل هنا غالبًا سفن المنائر أو المنائر العائمة ، لأنه لا يمكن تشييد منائر ثابتة هناك .
5 ـ في مصبات الأنهار الصالحة للملاحة ، حتى يمكن أن تقترب منها السفن ، وتدخلها حتى لو كان ذلك في وقت الظلام الشديد 
6 ـ في المضايق ، والقنوات ، التي تصعب الملاحة فيها .
حراس المنائر :
يشرف حراس أكفاء على المنائر المنعزلة ، وهم يعيشون في حال المنائر المشيدة على الصخور في غرف داخل البرج ، وفي حالة منائر الجزر في بيوت مشيدة عند قاعدتها ، ويوجد عادة ثلاثة حراس ، يقوم أحدهم بنوبة الحراسة دائمًا ، والمهمة الرئيسية للحراس هي تشغيل الضوء عند الغسق أي عند أول هبوط للظلام ، ومراقبته باستمرار للتأكد من أنه يعمل كما ينبغي أن يعمل .
ومسئولية هؤلاء الحراس مسئولية عظيمة ، وذلك لأن أي توقف للضوء ، أو أي خطأ من جانبهم ، قد يؤدي إلى فقد مئات الأنفس البريئة إذا حدث وأن تحطمت إحدى السفن ، وهم يعيشون حياة موحشة إلى حد ما ، وكثيرًا ما نقرأ في الصحف أو في بعض الروايات ، أنه في زمن الشتاء كثيرًا ما يواصل حراس إحدى المنائر العمل المستمر بعد انتهاء نوبة إقامته في المنار دون أن يحصل على إجازته الدورية لسوء الطقس ، وأن عليهم الانتظار إلى أن تهدأ العاصفة ، حتى يستطاع نقلهم آمنين إلى الشط .
المنائر في التاريخ : 
لعل أول منارة تم تشغيلها بصفة منتظمة في التاريخ هي التي اقيمت على الشاطئ بالقرب من طروادة في آسيا الصغرى ، في حوالي عام 660 قبل الميلاد.
ولكن أشهر المنائر في التاريخ الإنساني هي منارة فاروس بمدينة الإسكندرية المصرية ، وهي إحدى عجائب الدنيا السبع في الأزمنة القديمة ، ولقد شيدت حوالي عام 280 قبل الميلاد ، وظلت قائمة لمدة 1500 سنة كاملة إلى أن دمرها زلزال شديد في القرن الثالث عشر الميلادي . 
وقد شيد الرومان عدة منائر ، كانت أولاها في أوربا الغربية منارتي دوفر وبولونيا ، كما أن هناك منارة شهيرة شيدت في العصور الوسطى ، وهي منارة لانترنا في جنوا الإيطالية .
وكل هذه المنائر الأولى كانت تضاء بالفحم أو بالخشب في مجامر ضخمة ، ثم استعمل سميتون الذي شيد ثالث منارة في منطقة إيدستون خلال الأعوام من 1756 م إلى 1759 م ، 24 شمعة هائلة مصنوعة من الشحم الحيواني ، كانت تشاهد على بعد ثمانية كيلومترات . 
____
*باحث وخبير في التراث الثقافي 

شاهد أيضاً

جاسم خلف إلياس: التّـنظير الذي يَخلو من التّطبيق ناقصٌ، ولا يُمثل الكلية النّقدية

(ثقافات) جاسم خلف إلياس:  التّـنظير الذي يَخلو من التّطبيق ناقصٌ، ولا يُمثل الكلية النّقدية حاوره: …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *