ماركيز..الجورنالجي




بدأ غابرييل غارثيا ماركيز الذي حلت ذكراه الثانية قبل يومين، توفي 17 إبريل/نيسان 2014، حياته محرراً صحفياً في عدة صحف مثل «قرطاجنة» عام 1946، ثم «بارنيكا» من سنة 1948 إلى 1952، كما عمل في وكالة الأنباء الكوبية، ثم في نيويورك، وعندما تسلم قيمة جائزة «نوبل» في الأدب كان أول ما فكر فيه هو شراء دار صحفية، يعود من خلالها لممارسة عمله المفضل، فهو دائماً كان يؤكد أنه ولد صحفياً، لكنه يشرد أحياناً عن الطريق، ليكتب قصة هنا أو رواية هناك.
ظلت قيمة الجائزة المالية موضوعة في أحد البنوك السويسرية لمدة ستة عشر عاماً، كما يقول ماركيز نسي خلالها أمرها تماماً، حتى ذكرته بها زوجه «مرسيدس» فكان أول ما فعله هو شراء «كامبيو» وهي مجلة أسبوعية، حققت نجاحاً كبيراً على يديه، بسبب المقالات التي كان يكتبها فيها، وكانت هذه المقالات وسيلة تحاور بينه وبين القراء، يرد على أسئلتهم واستفساراتهم، التي تكشف في أحيان كثيرة عن جوانب لم تكن معروفة عن حياته، كما أن أهم ما في تلك المسألة هو أنه كان يكشف عن كثير من أسرار أعماله الأدبية.
دائما ما يوجه السؤال إلى الأدباء: هل أثر العمل الصحفي بالسلب في عملك الإبداعي؟ أياً كانت الإجابة، فإن ماركيز كان يؤكد أن الصحافة كانت معيناً أدبياً شديد الثراء بالنسبة له، فكثير من رواياته قامت أساساً على خبرات صحفية من تحقيقات وأخبار وغيرها، ومنها مثلاً «قصة غريق» و«حكاية موت معلن» و«نبأ اختطاف» كما أن رواية من أشهر رواياته وهي «خريف البطريرك» قد اختمرت في رأسه أثناء تغطية صحفية كان يقوم بها لمحاكمة شعبية لأحد الجنرالات المتهمين بجرائم حرب.
من ناحية أخرى فإن عمله الصحفي أتاح له نفوذاً كبيراً لدى كثير من الأنظمة الحاكمة، ومراكز السلطة في أمريكا اللاتينية، بالإضافة إلى شبكة اتصال واسعة بشخصيات سياسية، ما كانت صنعته كأديب تسمح له بأن يلتقي بها، فلا يخفى على أحد علاقته الوثيقة بفيدل كاسترو، وما كتبه عن عشاء تناوله مع الرئيس الأمريكي كلينتون.
يؤكد ماركيز دائماً أن معظم القصص القصيرة التي كتبها هي في الواقع أحداث حقيقية مر بها، من هنا تأتي أهمية المقالات التي كتبها، وترجمتها إلى العربية مها عبد الرؤوف، وصدرت عن دار ميريت للنشر، في كتاب عنوانه «غريق على أرض صلبة» ففيها يطلع ماركيز قراءه على بعض أسراره الأدبية، فلا أحد يعرف رحلة المعاناة التي عاشها، حتى يخرج هذا العمل أو ذاك إلى النور، وهو لا يخجل من الحديث عن بعض الاقتباسات، التي استعان بها في أشهر أعماله، والتي وصلت إلى النقل الحرفي أحيانا من بعض الكتاب.
سأله أحد القراء: «لا يخفى على أحد أن أعمالك الأدبية مطعمة بقدر كبير من مهنتك كصحفي، وأنت نفسك ذكرت ذلك عدة مرات، وأحسب أن ذلك ما جعلك تصدر «قصة غريق» و«حكاية موت معلن» و«نبأ اختطاف» في هذا السياق، هل يمكن أن ننتظر منك حواراً قريباً؟ ومع من سيكون؟!
حاول ماركيز صياغة السؤال على نحو يبدو معه مفهوماً، فهو يقول: «إنني كتبت تسع روايات وثماني وثلاثين قصة قصيرة وأكثر من ألفي مقال صحفي، وبضعة تقارير إخبارية وسيناريوهات للسينما، كتبت كل ذلك يوماً بعد يوم بأطراف أصابعي، خلال أكثر من ستين عاماً من الوحدة مع اللذة البسيطة والخالصة والمجانية للحكي».
يقول: «كلما ازدادت كتاباتي قلت قدرتي على التمييز بين أجناس الكتابة الصحفية، وأنا أستطيع أن أعد من الذاكرة وسائل الصحافة، ولكني دائماً ما أغفل عمداً الحوار، كأحد هذه الأجناس، لأنني غالباً أفصله على حدة، فهو في رأيي مثل مزهرية الجدة التي تساوي ثروة، لكن لا أحد يعرف أين يضعها، وأحد الأمور التي تثير حفيظتي بشأن الحوار هو السمعة التي اكتسبها، فقد تحول إلى مكان عام للمبتدئين، الذين يحملون أجهزة التسجيل، ليصبحوا صحفيين، والمتحدث في الحوار يحاول دائماً أن يستغله ليقول ما يحلو له، والأسوأ أن ذلك يكون تحت مسؤولية المحاور نفسه، الذي يجب أن يكون ماكراً، ليعرف متى يكون ما يخبره به محدثه أمراً حقيقياً، إنها لعبة القط والفأر، المتمثلة في أولى مراحلها في الحوارات المباشرة، التي تستغل غالباً للتعلم، أو بمعنى أصح لتعليم المبتدئين ألا يخشوا أي شيء، بل يذهبوا إلى الحرب مسلحين بمدافعهم وليس الأسئلة».
كانت مشكلة ماركيز الأساسية كصحفي هي نفسها مشكلته ككاتب: أي أجناس الكتابة أفضل؟، وانتهى في ذلك إلى اختيار التحقيق الصحفي، إنه ليس فقط مساوياً للحياة، بل هو أفضل من الحياة، على حد تعبير ماركيز، إنه يصلح لأن يكون قصة قصيرة أو رواية، مع الفارق الجوهري، الذي لا يمكن تجاهله، وهو أن الرواية أو القصة القصيرة يمكن أن تقبل الخيال بلا حدود، أما التحقيق الصحفي فيجب أن يكون واقعاً حتى آخر كلمة.
يتحدث ماركيز عن رواية «حكاية موت معلن» موضحاً أن العمل عبارة عن تحقيق صحفي أكثر منه قصة حول القتل العلني لأحد أصدقاء الطفولة على يدي أخوي خطيبته السابقة التي تزوجت، وأعادها زوجها إلى العائلة، لأنه لم يجدها عذراء، واتهمت الفتاة صديق ماركيز، فقام أخواها بتمزيقه بالطعنات في ميدان عام وفي وضح النهار، وانتظر ماركيز ثلاثين عاماً حتى يكتب تلك المأساة، لأن أمه رجته ألا يكتبها، لاعتبارات خاصة بعائلة القتيل.
يوضح ماركيز: «العمل إذاً ليس قصة، كما وضع خطأ في العنوان، لكنه واقعة تاريخية، محمية من الفضول الشعبي، عن طريق عدم ذكر الأماكن وتغيير الأسماء، لكن مع الحفاظ على الأحداث والوقائع، لدرجة تجعل من غير الممكن القول إنه تحقيق صحفي، بشكل رسمي، لكنه شكل من أشكاله».
أما «نبأ اختطاف» فإنها من واقع بنيتها خبر، وتتحدث عن خبر مفزع شاع وأصبح متداولاً في كولومبيا طيلة 262 يوماً، حول سلسلة من حوادث الاختطاف لشخصيات مهمة، كان يكمن وراءها هدف واحد، منع الجمعية التأسيسية من الموافقة على تسليم بعض المدانين الكولومبيين إلى الولايات المتحدة، وهذا العمل كما يقر ماركيز يمكن تصنيفه على أنه تحقيق صحفي خالص، لأنه يقدم معلومات حقيقية ومثبتة.
وأخيراً فإن «قصة غريق» هي أقرب إلى الحكاية، لأنها عبارة عن نقل منظم لتجربة شخصية واقعية، تروي بقية المشكلة عن طريق الشخص الوحيد الذي عاشها، ويمكن القول أيضاً إنها حوار طويل مرتب، قام به ماركيز وهو يعلم أنه لن ينشر على هذا النحو، بل ستتم تسويته ليصبح هو الآخر تحقيقاً صحفياً.
الخلاصة كما يقول ماركيز: «إنني أرى أن الصحافة ينبغي أن يكون لها قواعدها الخاصة وأخلاقياتها الخاصة، وأن ينظر إليها كجنس أدبي أكبر في السن، مثل الشعر والمسرح، والسؤال هو ما إذا كان الصحفيون الكولومبيون، بعد هذا الاعتراف العادل، سينجحون في تقديم التحقيق المنتظر منهم حول كولومبيا، التي كان يتغزل فيها الشعراء، والتي حولناها إلى أخطر الأماكن في العالم».
يتحدث ماركيز عن روايته «خريف البطريرك» التي بدأ في كتابتها عام 1958 في كاراكاس، وكانت حكاية بسيطة يتحدث الراوي فيها بالضمير الثالث حول ديكتاتور خيالي من منطقة الكاريبي، كانت الشخصية مأخوذة من عدة مصادر، وإن كانت في مجملها كما يقول ماركيز مستقاة من شخصية الديكتاتور الفنزويلي «خوان بثينتي جوميث».
يقول: «لم أكن تقدمت كثيراً في الكتابة، عندما وجدت أن عليّ السفر إلى هافانا كمراسل صحفي، لتغطية وقائع محاكمة شعبية علنية، من قبل القضاء الثوري لأحد جنرالات باتسيتا، الذي كان متهما بارتكاب كل ما يمكن تخيله من جرائم الحرب، استمرت المحاكمة ليلة كاملة، في استاد مكتظ بالبشر، وبحضور عدد كبير من المراسلين والصحفيين من مختلف أنحاء العالم، ومع حلول الصباح حكم على الجنرال بالموت، وأعدم بعد ذلك بعدة أيام».
كان ذلك درساً قاسياً من الواقع ضد طموحات وشطحات الخيال، أجبره على أن يعيد النظر في الشكل التقليدي، الذي يكتب به روايته، كانت المشكلة الوحيدة التي تؤرقه في تلك الفترة، هي محاولة الإمساك بزمام حياته مرة أخرى، واستعادة السيطرة عليها، بعد ذلك الدوران المفاجئ، الذي انتابه بعد «مئة عام من العزلة»، وكما يقول: «إن الصعب في هذه الرواية لم يكن كتابتها على الإطلاق، بل في كيفية الخروج منها وإزاحتها عن كاهلي».
منيت الرواية بفشل ذريع على مستوى الجمهور والنقاد كما يقول ماركيز حتى جاء جيل جديد، وضعها في المكان الذي تستحقه، ورغم ذلك كان ماركيز صحفياً وروائياً استثنائياً، استحق جائزة نوبل عام 1982 عن جدارة، دون أن يسأل أحد عند إعلان الأكاديمية السويدية النبأ: من هو السيد ماركيز؟
_________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

جاسم خلف إلياس: التّـنظير الذي يَخلو من التّطبيق ناقصٌ، ولا يُمثل الكلية النّقدية

(ثقافات) جاسم خلف إلياس:  التّـنظير الذي يَخلو من التّطبيق ناقصٌ، ولا يُمثل الكلية النّقدية حاوره: …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *