” الطاغوت”.. تحفة سينمائية لتشويه روسيا




*مهند النابلسي


خاص ( ثقافات )


لم ينل هذا الفيلم “المثير للجدل” إعجاب وزير الثقافة الروسية بالرغم من أنها (أي الوزارة) مولت الإنتاج، كما أنه لم ينل إعجابي أيضا لأنه يحفل بالمبالغات التي لا يمكن تصديقها، ولأنه يقدم روسيا كدولة “عالمثالثية” ينخرها التواطؤ والفساد وحتى الإجرام المافيوزي الشبكي، بينما الواقع العام لا يعكس ذلك، ولكن هذا لا ينفي أن الفيلم يعد تحفة فنية من الناحية الدرامية والإخراجية.
يلعب ” أليكسي سيريبرياكوف” دور رجل عادي يكافح الفساد بلا هوادة حفاظا على بيته ومصالحه الشخصية، حيث تقع الأحداث ببلدة منعزلة بعيدة عن موسكو، الفيلم من كتابة واخراج “أندريه زيفياجينسيف” وهو يتحدث عن بلد ينخره الفساد ويفتقد للقيادة النزيهة…بلد ينحدر للفوضى والمحسوبية والتغول حتى في ركن بعيد ناء (بمحاذاة بحر بارينتس)…والشريط يطرح سؤالا محوريا هاما: ما الذي سيحدث لرجل يريد مكافحة الفساد بعناد؟ ما الذي سيحدث في مركز الشرطة، أو الكنيسة أو قاعة المحكمة؟ وهل هناك أحد جاهز للوقوف بجانب هذا الرجل “المسكين”؟:
فهناك ميكانيكي يدعى “نيكولاي” أو كوبلا (أليكسي سيريبرياكوف) يعيش بمنزل خشبي ، يتجدد هواءه بنوافذ واسعة مطلة على الشاطىء، بمحاذاة مدخل قرية الصيد القديمة…زوجته الجميلة ليليا (ألينا ليادوفا) أصغر سنا وأقل تقلبا وأكثر هدوءا، وتعمل بمصنع تعليب السمك، وابنه الوحيد بسن المراهقة، وهو نتيجة زواج سابق…كوليا مدمن على الكحول ويشرب الفودكا بكثرة، أما رئيس البلدية الفاسد فاديم (رومان ماديانوف) فهو يسعى للاستحواذ على الأرض التي يسكن فوقها كوليا بحجة بناء “مركز اجتماعي”، ونرى كوليا يتعرض لتحرشات وتهديدات فتوة وزعران، كما يوجه له فاديم تهديدا مباشرا!
هذا الفيلم اللافت خسر الأوسكار أمام الفيلم البولندي “أدا” الذي يتحدث كما هو متوقع عن تداعيات الهولوكست اليهودي بألمانيا النازية، يظهر الملصق الإعلاني للفيلم بمنظر “هيكل عظمي ضخم لبقايا حوت أزرق” ملقى على الشاطى، ومن مشاهد الفيلم المعبرة لقطة لثلاثة رجال بحالة سكر وهم يهددون كوليا أمام اضاءة مصابح السيارة في المساء…يسعى كوليا لاستئجار صديقه المحام البارع الذي يقيم بموسكو “ديمتري”، ويبدو أنهما يحققان بالبدء نجاحا ملموسا من الناحية القانونية على الأقل، ولكن مضاعفات غير متوقعة تظهر تدريجيا، حيث تتغير حبكة الفيلم باتجاه آخر يمس مصير العائلة “الدرامي” ويشتت المشاهد بدلا من التركيز على تجانس “الثيمة الأساسية” للفيلم، كما أن إيقاع الفيلم يصبح بطيئا، ولكن البعد الدرامي التشويقي يبقى متماسكا مع قوة التمثيل والإخراج.
بالطبع لا ينجح رجل عادي بمقارعة سياسي “فاسد ومتنفذ ومحنك”، حيث تبدو كمعركة من جانب واحد، كل ما يريده كوليا هو التمسك والبقاء بمنزله البسيط الذي بناه على شاطىء البحر، ولا يستطيع أن يواجه العمدة بتبجحه ونفاقه وذكاءئه وعشقه الكاسح للسلطة، ناهيك عن كونه شخصية عدوانية عصبية يرغب بسرقة الآخرين لبناء النجاح والتبجح والمنزلة الاجتماعية، كما نرى الابن المراهق المحبط وهو يتناول الكحول مع رفاقه داخل الكنيسة ليغيبوا بالخدر والنسيان، ثم نرى إصرار كويلا على ممارسة مهنته وإصلاح السيارات المعطلة وأحيانا بالمجان، وكأنه يغرق نفسه بالعمل والفودكا، كما نرى ليليا تبدو لا مبالية ونتألم من خيانتها لزوجها مع صديقه المحامي بهذ السرعة “غير المفهومة” …تبدو صورة السياسي المتنفذ “كرتونية-ساخرة” وتناقض مع صورة الميكانيكي المستبسل للحفاظ على منزله وأرضه، والذي لا يبدو مثاليا وساذجا.
الفيلم يسلط الأضواء على الجوانب المظلمة للطبيعة البشرية، ويغوص بعرض حالات انتهاكات القانون، ولا نفهم سبب اختفاء الزوجة بالليل، وهل قتلت أم انتحرت عندما وجدوا جثتها ملقاة على الشاطىء؟ ولماذا اتهم الزوج بقتلها على خلفية خيانتها السافرة له…ثم يحكم بسرعة لخمسة عشر عاما، ولكنه يدعي البراءة بإصرار، ثم يتزامن ذلك مع تلقيه مكالمة هاتفية تفيد بالاستيلاء على ممتلكاته هكذا ببساطة وبلا استئناف…كل شيء هنا يشير لوجود مؤامرة محكمة التدبير، ويختتم الفيلم بخطبة “متبجحة” من قبل الأسقف المحلي للكنيسة الجديدة، يركز فيها على الفضائل في هذا العالم الآثم المتقلب، ثم يتحفنا بمشاهد أخيرة للبحر القطبي الهائج وبموجات تضرب الشاطىء الصخري بمحاذاة الهيكل العظمي الهائل للحوت، وكأنه بقايا وحش البحر “التنيني”!
بغض النظر عن المضمون السياسي “المبالغ به” فالفيلم يمثل عظمة إخراجية لافتة ومنها مشاهد السكون والتأمل والمجاز المستمد من “الهيكل العظمي الضخم الملقى على الشاطىء”، ويتضمن لقطات عديدة معبرة لحالات “الهجاء والتهريج والسخرية اللاذعة” وصولا للكوميديا السوداء، ويخفي كثيرا من “الاحتدام والزخم” تحت السطح البارد للأحداث، ويشير للغضب المستتر في ظل الأنظمة “المتسلطة المركزية”، كما أنه يشير بواقعية لممارسات “السب والشتم والهجاء “تحت تأثير شرب الفودكا الدارج بالمجتمع الروسي، ولا يخفي عقدة “المظاهر” التي ما زالت متأصلة عند طبقة “البيروقراطيين المتنفذين”الروس والمتمثلة بحب الشهرة واضطهاد المساكين، وبالتمسك بمظاهر الثراء “الملابس والسجاد والتماثيل والمشروب”، كما بدت محاولات تشويه سمعة “النظام الروسي والكنيسة الأرثوذكسية” واضحة، غير أن الموضوع أكبر من مجرد الاستحواذ على قطعة صغيرة من الأرض، وإنما رؤيا “فلسفية ممتدة” للموت والبؤس والمعاناة والقهر…وقد تذكرنا هنا كيف يتواطؤ زعيم المافيا الجديد “آل باشينو في فيلم العراب ” مع الكنيسة ويقوم أثناء تعميده لابن شقيقته بحملة اغتيالات سرية كاسحة لاستئصال كل المناوئين بعد هدنة مؤقتة عملا بنصيحة والده المتوفى “دون كوروليوني” (مارلون براندو)، فيما بدا الاختلاف هنا يتمثل بشخص واحد مناوئ يعمل كميكانيكي سيارات بسيط واسمه “كوليا”!
واؤيد هنا بعض النقاد الذين شبهوا ثيمة ومضمون هذا الفيلم بتحفة آليا كازان الخالدة “على ناصية الميناء”(1954)، واعتبروه “النسخة الروسية” (مع اختلاف التفاصيل) للفيلم الأمريكي الشهير الذي حصد الجوائز وأظهر براعة “مارلون براندو” في التمثيل والتقمص وأطلقه للنجومية العالمية (وقد سبق ونشرت مقالتين نقديتين حوله)!

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *