*ناصر الريماوي
خاص ( ثقافات )
تراكم الهدوء مريب. يغطي كل شيء..!
الشوارع والمباني المجاورة، الحدائق العامة، وفسحات البيوت.
تلك الأماكن، تقلّبت كثيرا في نومها، غفت في توجس عميق ليلة أمس، ثم استفاقت على تراكم الصمت.
الآن.. حالة تأملية عميقة تطحن الأشياء من حولها، برفق، حتى مطلع الفجر.
****
دقائق الفجر الأولى، جميلة وكثيفة. تلك التي تسبق الشمس تحديداً.
حيث العتمة تتسحّب كلص مُخلّفة تراب قدميها فوق قرميد البيوت، ولونا فضيا باهتا يطوق الأثير.
سرعان ما يتكاثف اللون في انسحابها المتسرّع، ويصبغ الطريق بالأزرق.
في ابتعاد العتمة، يختلط الشبه كثيرا، بين الأشياء وظلالها، حيث المباني خيالات تمازح الشجر وتضحك،
تمنحنا الكثير من وقتها، قبل أن تستفيق الأشياء بجديّة وتبدأ دورة البحث عن مخبأ.
أو قبل أن يصحو أصغر كائن فردي، وينشغل عنّا بالبحث عن ظل حقيقي ليستر فيه نفسه.
الكائنات والأشياء، وظلالها، ما تلبث أن تتوارى وتبتعد،
قبل أن تدوسها الشمس وهي تترجل نحو الطريق حافية.
****
بعد الشروق بقليل، شمس ” توسكانية “، تطلّ متوعدة، من بين التلال،
تندلق بسعيرها النحاسي على السفوح ثم تسيل في حمم مجنونة حتى أول الطريق.
دقائق قليلة قبل أن ينقضي الشرود في متعة لا توصف، بين الفجر ولونيه، الفضي والأزرق،
لتبدأ بعدها مطاردة الأشياء في البحث عن ظلّها.
دقائق قليلة ويهرب الغبش الأثيرالعذب ويهجر لعبة الظلّ الجميلة.
دقائق معدودة ستمضي بين تأرجح ارتعاشات شفيفة، وإيقاع همس لا يرد بين الكائنات.
دقائق لو أنها تدوم، قبل انفجار الوقت، وتراكم النهار، ثم ساعات الهرب الكوني.
مجرد دقائق قليلة، وتنطلق موجات “إف إم” محليّة ودولية، لتشتعل بتحذيرات مألوفة، حول إنسداد محتمل للمدى، وتراكم شبه مؤكد للنهار على الطرقات.
****
حالة فريدة من تكدُّس النهارات غالبا ما تُصيب المدن.
شلل نسبي وإحساس لَدِنْ بالمشقة، يغشى الجميع. انتكاسة الطريق قد تصيب البعض في القيظ، لكن هذا ليس بالأهم، فهي تفور بلا ملل أو إنسداد للمدى في ذروة الظهيرة، بلا خشية – أيضا – من تراكم عفوي للوقت تحت النوافذ أو بين أعتاب البيوت.
في الأولى، أعود باكراً، وعيني على السماء، أترقب، هل أنجَبَ الفراغ عُقَدا مرورية جديدة،
وما الذي حلّ بالأرصفة؟ تلك التي صادَرتها الأكشاك الفارغة ثم رمتها على شفير التقاطعات العريضة.
أتحسّس، ألا يكفيني ظلّي، حتى إشارة المرور الثانية، على أقلّ تقدير؟
غالبا ما نستجدي طاقة الحظ والأبراج وحتى خانة اليانصيب الخيري، خشية التورط، قبل كل تراكم عبثي محتمل للنهار، على الطرقات تحديدا، وفي الأزقة الفرعية.
الجميع يعودون باكراً، لتلافي أزمة محتملة للظلال. ظلال خانقة، تغفو تحت الشمس ثم تهجر أصحابها، يحدث هذا في تكّدس النهارات أو تراكمها، وغالبا ما تستفحل عند منتصف الظهيرة.
اليوم، كان صف الظلال الغافية ممتدا، طويلا، يصطف خلف شرطي المرور، يرتقي بعضها مداعبا طاقيته، بينما هو على اضطرابه يبحث عن ظلّه بينها و يرشح عرقا.
تحذير أممي، يعلو مجدداً، على موجات “إف إم”، كان يهيب بالناس، أن يتحسّس كل ظلّه، قبل الخروج، أن يُبقي عليه يقظا عند العودة، وأما التخلي عنه، فهو جريمة.. إلا عند الضرورة.
____________
* قاص أردني