* مهند النابلسي
ننتقل للشخصيتين الأخريين هنا، أولاهما شخصية المتدرب (السمين- المتوحد) غومر بايل بفيلم كوبريك “الرصاصة المعدنية” (1987)، فنراه طوال الفيلم وهو يصبر ويراكم القهر والإحباط والإهانات والسخرية، حتى ينفجر بلحظة جنونية غير متوقعة فيقتل مدربه العنيف القاسي الساخر هارتمان، ومن ثم ينتحر ببندقية، فقد تحمل ليوناردو لورنس (الممثل دونو فريو) الأهوال من المدرب العسكري الطاغية (الممثل لي ايرمي)، وعانى من السخرية والإساءة المستمرة من زملائه وخصوصاً من وقاحة المدرب واستهتاره به لعجزه عن إكمال التمارين بسبب وزنه الزائد وضعف استيعابه، ونراه يكبت حقده وينتقل تدريجياً من حالة الطاعة والرضوخ الى حالة جنونية بطيئة، تتمثل أولا بإيماءات غريبة وعزلة شديدة ومن ثم محادثته المستمرة لنفسه، ويتطور الأمر ليشمل نظرات عينيه التي تصبح غريبة فارغة، وهنا يقتبس كوبريك مشاهد تحول “جاك نيكلسون” من فيلمه الشهير المرعب “شايننغ” (الاشعاع)، حيث بدا البطل يظهر تدريجياً ابتسامة غريبة، مخفياً نظرات مرعبة لعينين ضيقتين تبحلقان بالفراغ وكأنهما تشاهدان الأشباح (التي يبدو وكأنها تحوم بردهات الفندق الجبلي المعزول والمهجور والمسكون)!…هكذا نجح كوبريك بتطوير شخصية المجند “المسكين” ليتحول تدريجياً إلى مجرم مجنون قاتل، كبديل لحالة الانهيار العصبي المتوقعة، وانتقل هنا لشخصية المدرب العسكري التي أداها باقتدار وتميز الممثل “لي أرمي” (وهو بالفعل رقيب سابق في مشاة البحرية وخدمبحرب فيتنام)، وبدا وكأنه يقوم بالدور بشكل طبيعي (بلا تمثيل أو تقمص)، وهذه من الحالات النادرة بالسينما، وتكاد تنبهر كمشاهد من حيث أسلوبه بأداء التدريبات الرياضبة، أو بطريقة تعامله المهين القاسي مع المتدربين، كما باستخدامه المفرط للكلمات السيئة والألفاظ البذيئة النابية (المضحكة والغريبة المضمون)، كما بدت حركاته وإيمائاته المتشنجة الصارمة كوميدية، ولم يكن بالحق عبثاً استحقاقه لجائزة “أفضل ممثل”.
والحق أن مثل هذه الشخصيات الثلاث قلّ أن نرى لها مثيلاً بمعظم الأفلام العصرية، التي تطغى على معظمها مشاهد التقطيع والإبهار والمؤثرات الخاصة، وهذه بالتأكيد تساعد الكثير من الممثلين على “تحقيق” الشحنات التعبيرية بالحد الأدنى من الجهد والأداء التمثيلي، عدا عن ضعف “الكيمياء” بين الممثلين والممثلات أحياناوالذي نشهده بالعديد من الأفلام الحديثة، ويكفي للدلالة هنا أن نذكر أن المخرج الألماني لانغ قد أجبر الممثل بيتر لوري بفيلم القاتل، على إعادة مشهد صعود الدرج (في آخر الشريط) عشرات المرات حتى يثبت اللقطة المعبرة كما يريدها، كما أن كوبريك معروف بصرامته ورؤيته الشمولية، حتى أن كاتبي السيناريو لفيلمه”الرصاصة المعدنية ” وهما الكابتن مايكل هير وجوستاف هاسفورد قد وصفا طبيعة عملهما معه كعاملين لتركيبة “معدنية انشائية” غامضة، حيث بدا وكأنه هو الوحيد القادر على تحديد شكل السيارة كمنتج نهائي (حسب وصفهما الدقيق المجازي لطريقة إخراجه السينمائي)!
أما الشخصية “المازوخية” الرابعة التي سأتطرق لها بهذا التحليل، فهي شخصية “محمد” الطالباني المتطرف، الذي قتل ثلاثة جنود أمريكان بأفغانستان، ومن ثم قبض عليه ونقل لمعتقل غوانتانامو للاستجواب، ومن ثم لبولندا لإكمال التحقيق، حيث يتمكن بالصدفة من الهرب بعد انقلاب السيارة وقيامه بقتل أحد الحراس، ليجد نفسه بمنطفة ثلجية نائية تطارده الشرطة والكلاب والطائرات، يقوم بهذا الدورالصعب الممثل الأمريكي “غير المشهور” فنسينت جالو في فيلم “القتل الضروري”(2010) من إخراج البولندي جيرزي سكوليموسكي (وهونفسه كاتب السيناريو)، وقد تعرض الممثل لظروف قاسية تضمنت المشي حافياً فوق أراضي ثلجية وعرة كما عانىمن تعرضه المستمر للجوع والبرد القارس. يتطرق هذا الشريط المميز لشخصية البطل الذي يتحول تدريجياً لما يشبه “الحيوانالبري” الضاري، فهو يقتل سائق شاحنة بوحشية كما يقتل كلباً بوليسياً بضراوة تفوق ضراوة الكلب نفسه، ويتورط بحالات القتل بهدف الهرب وحماية ذاته فيقتل آخرين بتلقائية “حيوانية”، كما يستغل امرأة بدينة تصطحب رضيعاً بالغابة فيجبرها على أن ترضعه من حليب ثديها، ونرى أن ممارسات التعذيب والايهام بالغرق بالمعتقل الشهير تحت وهج الشمس المحرقة، حيث تتراكم المعاناة والقهر ومن ثم تنفجر صرخات الخوف والألم والهذيان ، لتحوله تدريجياً لكائن “غير إنساني”، ونرى ذلك متمثلاً بتعبيرات وجهه القاسية ونظرات عينيه الحادة التي تشبه الصقر البري، كما أن فقدانه لوسائل التواصل البشري، كالقدرة على على السمع والتخاطب، فهو لا يقول كلمة واحدة مفهومة طوال الفيلم، وكل ما يصدرعنه هو همهمات غير مفهومة وهذيان مشوش، كل هذه الأحداث والمطاردات اللاهثة قادته لحافة الجنون والحيوانية فيما يشبه “الدراما الميتافيزيائية”، كما يبدو انهياره الحتمي بآخر الشريط منطقياً في مشهد “سيريالي” لافت، حيث تنجح امرأة صماء بكماء بتضميد جراحه وإطعامه قبل أن ينطلق مشرداً على ظهر حصان أبيض جميل وهو ينزف بغزارة فوق ظهر الحصان مستلقياً، ونراه يتهاوى تدريجياً، في حين نرى الحصان بعد برهة وقد لوثت الدماء الحمراء بياضه الناصع، ثم نشاهد الحصان يسير وحيداً في منطقة ثلجية واسعة …والحق أن “مشاهدة بولونية ذكية” حضرت العرض قد قدمت ضمنياً تفسيراً منطقياً لهذه المشاهد الأخيرة المحيرة، والتفسير ربما يستند لحس الشعور بالذنب لدى المخرج القدير الحساس، فهوربما يحاول إيجاد “معادل موضوعي” لفكرة قيام الحكومة البولونية وغيرها بإكمال استجواب معتقلي “جوانتانامو” في تعاون سري مشبوه وغير مبرر مع المخابرات الأمريكية!
قدمت شخصية “الطالباني” المطارد بهذا الفيلم وكأنها “كينونة روبوتية دينية مستلبة” تتحكم بها فقط غريزة الصمود والمرجعية “الدينية” المقدسة كما الرغبة بالبقاء حيا بظل ظروف قاهرة واستثنائية، كما ابتعد المخرج بذكاء مقصود عن التورط بتقديم ثيمة سياسية “حيادية أو متحيزة”، وقدم بدلاً منها فيلم مطاردة غير مسبوق.
________
*كاتب وناقد فني