صدق أو لا تصدق.. هذه مكتباتنا


*د . يسري عبد الغني عبد الله



خاص ( ثقافات )
منارات لنشر المعرفة : 
خلال العصر العباسي انتشرت صناعة الورق بالبلاد العربية و الإسلامية ، وأصبحت من الصناعات المحلية ، وعلى هذا انتشرت الكتب ، وأصبح تداولها سهلاً ميسوراً ، وكان الوراقون يقومون بنسخ الكتب وبيعها للقراء ، في نفس الوقت الذي اهتم فيه كثيرون بجمع الكتب ، فنشأ عن ذلك مكتبات عديدة هنا وهناك .
ومن الحق أن نقرر أن صناعة الورق هي من أهم ما منحه الشرق الإسلامي إلى أوربا عن طريق صقلية وأسبانيا .(1)
ومن المكتبات التي حظيت بشهرة واسعة في العالم الإسلامي خلال القرن العاشر الميلادي مكتبة الموصل العراقية ، وكان العلماء يلجئون إليها للقراءة والاطلاع والنقل ، كما كانوا يحصلون بالمجان على ما يحتاجون من أوراق وأقلام .
وفي القرن نفسه كان صاحب مكتبة مماثلة بالبصرة لا يكتفي بمد الباحثين بالأقلام والأوراق ، بل كان يقدم منحاً منتظمة للطلاب الذين يدرسون بالمكتبة .
وكثير من المكتبات كانت تبيح إعارة الكتب للاطلاع الخارجي مقابل شروط معينة ، وقد مدح ياقوت الحموي في كتابه (معجم البلدان ) المشرفين على المكتبات ببلدة (مرو) إذ سمحو له أن يستعير مائتي مجلد دون أن يدفع أي ضمان.(2) 
رصيد ضخم :-
كما كان في بلاد الاندلس حوالي 20 مكتبة عامة تفتح أبوابها للجميع طوال اليوم ، منها مكتبة قرطبة الأندلسية التي حوت وحدها في القرن العاشر الميلادي 4000.000 مجلد أو 600.000 مجلد كما ورد في رواية أخرى ، ويظهر الفرق واضحاً إذا قورن هذا العدد بما تحويه المكتبات المعاصرة في أوربا ، إذ كان أقصى ما وجد بأية مكتبة آنذاك هو بضعة آلاف لا تتجاوز العشرة أو لا تصل إليها .
وقد ذكرت دائرة المعارف الكاثوليكيةـ ولعل الرقم الذي تورده دقيق ـ أن مكتبة كنيسة (كانتربوري) وهي أغنى المكتبات المسيحية المعاصرة كانت تحوي 1800 مجلد في القرن الرابع عشر الميلادي أي بعد بوادر النهضة في أوربا .
ويروى أن مكتبة دار الحكمة بالقاهرة كانت تحوي أكثر من مليونين من المجلدات ، وأن مكتبة طرابلس اللبنانية ـ التي أحرقها الصليبيون إبان الحروب الصليبية الأولى ـ كان بها أكثر من 3 ملايين من المجلدات منها 50.000 نسخة من القرآن الكريم وتفسيره ، ومعنى هذا أن هذه المكتبة كان بها ثلاثة أرباع ما تحويه مكتبة بدليان أو تحوي أكثر من نصف ما تحويه جميع مكتبات الهند وباكستان في العصر الحاضر .
وكانت الكتب في مكتبة الحاكم بالأندلس مرتبة في أربعين حجرة ، كل حجرة كان بها 18000 كتاب .
وكانت خزانة الكتب التي أنشأها عضد الدولة في شيراز تشغل 360 حجرة ، تحيط بها الحدائق والمتنزهات من جميع الأنحاء ، كما كانت هناك مكتبات أخرى مماثلة في البلاد الإسلامية ، مثل : بغداد ، ورام هرمز ، والبصرة ، والري ، ومرو ، وبلخ ، وبخارى ، وغزنة .. إلخ .. ، نضيف إلى ذلك المكتبات الكبيرة التي كانت تلحق بالمساجد الشهيرة في أرجاء المعمورة الإسلامية .
ومما يزيد في قيمة هذه المكتبات التي يمكن أن نصفها بأنها مدارس أو جامعات مفتوحة أو مؤسسات علمية تربوية للجميع ، مما يزيد من قيمتها ويضاعف مقدار ما كان بها من مجلدات أن كتبها كانت كلها مخطوطات ، إذ لم تكن الطباعة قد ظهرت بعد .
ونشير هنا إلى أن خزنة الكتب أو أمناء المكتبات كانوا دائماً من صفوة العلماء الأفذاذ ، ويكفي أن نذكر : الشيخ الرئيس الطبيب الفيلسوف / ابن سينا ، وعالم التربية والاجتماع والأخلاق / ابن مسكويه ، والأديب الفقيه / الشابشني ، قد شغلوا هذه الوظيفة المهمة في المكتبات الإسلامية .
بين البناء والنظام :
يقول المستشرق / أوجابينتو عن المكتبات الإسلامية : إن المكتبات العامة ، التي كانت تعد لاستقبال الجماهير ، شيدت كبناء خاص على طراز معين ، مثل مكتبات : شيراز ، وقرطبة ، والقاهرة ، وما ماثلها .
وكان بناء المكتبات أو أبنيتها مزودة بحجرات متعددة واسعة يربط بينها أروقة فسيحة ، كما كانت الأرفف تثبت بجوار الجدران لتوضع فيها (أو عليها) الكتب ، وبعض الأروقة كان يخصص للاطلاع ، كما كانت تخصص بعض الحجرات للنسخ ، وبعضها للاطلاع والقراءة .
بل أنه انتظمت بعض الحجرات في بعض المكتبات لسماع الموسيقى الهادئة ، حيث يلجأ إليها القراء والمطالعون للترفيه ، وتجديد النشاط .
وهذا يعني ـ دون أدنى مبالغة ـ أن المسلمين هم أول من أقام المكتبات الموسيقية كي يدلف إليها القراء ، ويغذوا وجدانهم ومشاعرهم بالموسيقى الراقية الهادئة ، وبالطبع لم يكن هناك اسطوانات أو شرائط أو أقراص مدمجة مسجل عليها القطع الموسيقية أو الألحان ، ولكن المؤكد أنه كان هناك مجموعة من العازفين المهرة تقوم بذلك .
وكانت جميع حجرات المكتبات مؤثثة تأثيثاً فخماً ضخماً ، مريحاً جداً ، وقد فرشت أرضها بالبسط والحصير لتلائم أذواق الشرقيين الذين كانوا يميلون إلى الجلوس على الأرض متقاطعة أرجلهم ، للقراءة والكتابة .(3)
وكان بالمكتبات حجرات خاصة للدراسة ، وحجرات ثانية لإلقاء المحاضرات يقوم بها كبار العلماء والأدباء وأهل الفكر ، وحجرات ثالثة للحوار والنقاش والمناظرة تبعد عن القاعات المخصصة للقراءة والاطلاع والنسخ حتى يتوافر للقراء جو من الهدوء يتيح لهم التركيز والاستيعاب .
و نضيف إلى ذلك : أنه كان للمكتبات شكل فني معين في بنائها وطرازها المعماري ، وذلك ليتعرف عليها عامة الناس بسهولة ويسر بدلاً من السؤال عنها ، وكي يكون لها شكل مميز عن سائر البنايات الأخرى .
النوافذ والأبواب :
وكان للنوافذ والأبواب ستائر جميلة تنظف بشكل دائم ومستمر ، وإذا حدث لها أي عطب سارع المشرف على المكتبة بتكليف من يرممها من ميزانية المكتبة.
أما مدخل المكتبة فقد كانت له ستائر سميكة جداً تحول دون دخول الهواء البارد في الشتاء إلى داخل الحجرات في المكتبة .
ويحكي لنا المقريزي في كتابه (الخطط ) : إن دار الحكمة التي أسسها الحاكم بأمر الله الفاطمي في القاهرة ، لم تفتح أبوابها لعامة الجماهير إلا بعد أن فرشت وزخرفت وعلقت على جميع أبوابها وممراتها الستور (الستائر) ، وأقيم قوام وفراشون وخدام وغيرهم ، كلفوا بالخدمة في المكتبة .
ويضيف المقريزي : وكان البناء المخصص لمكتبة الفاطميين عظيماً جداً ، إذ كانت عدة الخزائن التي برسم الكتب في سائر العلوم أربعين خزانة ، تتسع الواحدة منها لأن يوضع بها 180000 كتاب . (4) 
ويكتب المقدسي في كتابه (أحسن التقاسيم ) وصفاً دقيقاً لمكتبة عضد الدولة في شيراز ، فيقول عن بنائها ونظامه : إن المكتبة (أزج ) طويل في صفة كبيرة فيها خزائن من كل وجه ، وقد ألصقت إلى جميع حيطان الأزج والخزائن بيوت طولها قامة في عرض ثلاثة أزرع من الخشب المذوق عليها أبواب تنحدر من فوق ، والدفاتر منضدة على الأرفف ، لكل نوع بيوت (حجرات ) . (5) 
ويبدو لنا أن هذا الاقتباس يشير إلى أن المكتبة كانت موزعة في حجرات على حسب موضوعاتها ، وهو نظام اتبع في جميع المكتبات الإسلامية تقريباً ، ويشير في نفس الوقت إلى مدى اتساع أبنية المكتبات الإسلامية ، وتعدد حجراتها .(6)
وها هو الشيخ الرئيس / ابن سينا الذي انتفع كثيراً بمكتبة السامانيين في عهد الأمير / نوح بن منصور ، يصف لنا هذه المكتبة قائلاً : دخلت داراً ذات بيوت كثيرة (حجرات) ، في كل بيت صناديق كتب منضد بعضها فوق بعض ، وفي بيت منها كتب الشعر والعربية ، وفي بيت آخر كتب الفقه ، وكذلك في كل بيت كتب علم مفرد .
طريقة وضع الكتب :
ونحب أن نوضح هنا أن المسلمين لم يعرفوا في القرون الوسيطة الطريقة الحديثة في وضع الكتب على الأرفف بل كانوا يضعونها مستلقية الواحد فوق الاخر .
ولم تعرف أوربا في ذلك الوقت الطريقة الحديثة أيضاً ، بل كانوا يفعلون مثل ما فعل المسلمون ، ولعل السبب في ذلك هو أن تلك الطريقة انحدرت للعصور الوسيطة من الفترات التاريخية السابقة له ، والتي كانت كتبها عبارة عن أوراق البردي أو لفافات منها ، أو مما يماثلها .
وقضت طبيعة هذه الأوراق ، وتلك اللفافات أن توضع في الأرفف بعضها فوق بعض ، وفي كتاب المستشرق / فروسانثال ، والذي كتبه سنة 1924 م ، تحت عنوان (تقنية المكتبات المدرسية عند المسلمين ) ، ما يوضح ذلك ويؤكده .
كما كان يعتقد أن الكتب عندما يوضع بعضها فوق بعض تحمى من الأتربة ، ومن قراضة الكتب التي استطاع المسلمون ـ على أي حال ـ أن يجد لها دواء ، أو فلنقل : مبيداً حشرياً فعالاً يقضي عليها دون أدنى إضرار بأوراق الكتب .
وبهذا نصح العلامة / ابن جماعة في كتابه : (تذكرة السامع) من يقوم بترتيب الكتب ألا يضع ذوات القطع الكبير فوق ذوات القطع الصغير ، كيلا يكثر تساقطها . (7) 
وترتب على تنظيم الكتب بهذه الطريقة شيء آخر هو : أن عنوان الكتاب ، واسم مؤلفه لم يكتبا على ظهر الكتاب (كعب الكتاب) كما هو متبع في العهد الحاضر ، بل كان المعروف أن يكتب عنوان الكتاب ، واسم مؤلفه على أطراف الصفحات مجتمعة من أسفل ، وتجعل رؤوس الأحرف تجاه بدء الكتاب ، فإذا وضعت الكتب بعضها فوق بعض جعل الجانب الذي عليه الكتابة في الجهة الخارجية للرف ليواجه الشخص الذي يبحث عن كتاب معين فيسهل عليه في هذه الحالة أن يعثر على الكتاب الذي يريده . (8)
أما الكتب الثمينة أو الكتب غير المجلدة ، فقد كان كل منها يحفظ غالباً في صندوق صغير ، حجمه حجم الكتاب ، وهذا الصندوق مصنوع من الورق المقوى في الغالب الأعم ، ويكتب العنوان ، واسم المؤلف في هذه الحال على جانب الصندوق بدلاً من أطراف الورق .
وقد شاهد كاتب هذه السطور في دار الكتب المصرية في القاهرة مجموعة كبيرة منحدرة من تلك العصور ، كتب العنوان ، واسم المؤلف على أطراف أوراقها ن أو على جوانب صناديقها .
وكانت الأرفف في المكتبات الإسلامية مفتوحة ، وهي تذكرنا بقاعات المراجع في المكتبات الكبيرة ، حيث تكون الكتب في متناول الجميع ، وكل شخص يستطيع بسهولة ويسر أن يحصل على الكتاب الذي يريده ، فإذا ضل الطريق إلى كتابه المرجو ، أو صعب عليه ذلك ، استعان بأحد المناولين (المرشدين ) الذين يسارعون بتلبية أي طلب للقارئ .
على أية حال فقد كانت هناك رفوف مغلقة لأنها كانت تحوي المخطوطات الثمينة والكتب النادرة ، وللحصول على مخطوطة أو كتاب ، يلزم للقارئ الحصول على إذن خاص من أمين المكتبة (المشرف عليها) .
الهوامش والأسانيد
(1) م . م . شرايف ، مآثر المسلمين في مجال الدراسات العلمية والفلسفية ، ترجمة / أحمد شلبي ، ط 8 ، القاهرة ، 1986 م ، حديثه عن المكتبات الإسلامية. وكذلك : أحمد شلبي ، التربية والتعليم في الفكر الإسلامي ، مكتبة النهضة المصرية ، ص 151 وما بعدها . 
(2) ياقوت الحموي ، معجم البلدان ، القاهرة ، 1332 هـ ، 6 / 26 .
(3) أوجان بينتو ، المكتبات الإسلامية ، مقالة منشورة في مجلة (الثقافة الإسلامية) الصادرة سنة 1829 م ، 3 / 227 .
(4) المقريزي ، الخطط ، القاهرة ، 1170 هـ ، 1 / 408 ـ 458 .
(5) المقدسي ، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ، ليدن ، هولندا ، 1906 م ، ص 449 .
(6) ابن أبي أصيبعة ، عيون الأنباء في طبقات الأطباء ، نشرة موللر ، 2 / 4 
(7) ابن جماعة ، تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم ، حيدر آباد ، الهند ، 1353 هـ ، ص 172 .
(8) ابن جماعه ، المرجع السابق ذكره ، ص 171 ـ 172 
(9) أوجان بينتو ، المكتبات الإسلامية ، مرجع سابق الإشارة ، 3 / 229 
__________
*باحث وخبير في التراث الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *