امرأة سريعة العطب


*واسيني الأعرج


تقتلني غفوتك وسلطان غيّك. يقتلني سهوك وغيابك. أنا هنا بين سحر أناملك قبل أن يفتح الفجر قلبه وعينيه. هل ما زلتَ تذكر حبيبي أم سرقتك الأسفار وأنداء الفجر ونساء الصدفة الجميلات؟ أما زلتُ فيك كما الطير إذ نقر الفرحة في كفك ثم حلق بعيدا كي لا ترى حزنه الخفي؟ في مثل هذا اليوم صحوتُ على وردة القلب بين شفتيك. تلمست خطوط وجهك برعشة خوف أن أشعل عمرها الهارب. رأيت بؤبؤ عينيك فقط لأقرأ المسافات والأقوام والبحار التي تخطيتها مغمض القلب، لتحط بالضبط حيث قدٍّر لك أن تدهشني قبل أن تسرقني. رأيتك عند عتبة الخوف تقول لي ما في القلب، قبل أن تنسحب: أخشى أن أموت ولا أشبع من ملمس الحرير في روحك، ولا من عواصف جسد سُرق منذ القيامة الأولى، ولا من لغة مضيئة دفنتها الطفولة في قلبها، وأغلقت عليها بإحكام مخافة التيه والنسيان. أبحث عنك بلا خوف منّي وأنا لا أعرف كيف يمكن أن يكون العاشق ضحية حلم سرقه في غفلة حزنه.

 ماذا يحدث لي حبيبي؟ ألي عقل وذاكرة وجسد وحياة ملمسها من حقيقة، أم مجرد افتراض أنا، سيسرقه الصباح وهزات الخيبة؟ أي سحابة رمتك في الظلمة اليسرى من القلب؟ أهي علامات جنون العاشق المفدى أم رحلة رجل التيه في دم امرأة؟ من قادك نحوي؟ من هبّلك قبل أن يسيّرك صوب خوفي؟ أي قدر نزعك من شجرة الجنة ثم نفخ فيك من روحه ثم رماك نحوي؟ هل كنتَ منتشيا وانت تسقط ريشة ناعمة في عمق كفي؟ الأبواب موصدة وقصور الطفولة لا يعبرها إلا عارف السحر ورمز الغواية. أأنت من رأيت في حلم الطفولة؟ لماذا تركتني أنتظر حتى انتابني الموت والخوف؟ ما الذي عطلك؟ أية امرأة سرقت طريقك؟ أية ريح رمتك في غير معابري؟ ربما لأن صوتي أبح وندائي تأخر كثيرا قبل أن يصلك. لماذا تركتهم يعبثون بسري وأنا ولدت معك وفيك ولك، بقلب واحد، ورئتين أخلصتا لهواء الفجر، وعيون تستحم في كل ثانية في شمس خلقت لنا؟ ألم نلتف بحبل سري واحد ويوم قطعوه محوا كل علامات السحر والسر وأسكنونا في تيه هم من اختاروه لنا. 

لم أتعلم طوال الزمن الذي مضى كيف أحبك وأفك أسرار بعدك. ينتابني الآن حنين الركض نحوك أنّا كنتَ، في قلبي أو خارجه أو على ضفافه القلقة، أو حتى في حضن امرأة غيري. فأنا أعرف أني سكن حبيبي وملح وفائه. عاشق أبدا لكن الخديعة لا تشبهه. حبيبي. يا طائر الفرح الهارب. أمنحك الحياة كلها لكن لا تقل كلاما مستعادا، مرّ عليه خريف ثم خريف آخر، فثالث ثم خريف غام فيه العد، مات وانتهى. لا تعتذر عن زمن لم نعرف كيف نمسكه كي يبقى قليلا. لا يهم من منا ضيعه، ولا من نسي أن يرصع قلبه بمرايا الشمس. بهمني أنك عدتَ من غيب كاد أن يدفنك. ابحث لي عن دوار آخر غير الذي أعرفه، يفقدني توازني وما تبقى من استقامتي وعقلي، ويدمي هبلي للمرة الأخيرة، امتحني بفرحك وبقدرتي على تحمل هبلك. فأنا لا أنوي العيش بعده سوى لأنجب هبلا جديدا يمنحني حقي في أن أجن بك ومعك وعليك أيضا، ويضعني بين يديك خارج مدارات الخوف والضغينة. هزني بعنف الغواية ولا تقل لي ما سمعته من غيرك. ميزني كي أكون لك في صحوك وغيابك. وشوش ذاكرتي وانزع عنها غطاء الكذب. لا تقل حبيبتي أشتاقك وافتقدك.


يسكنني قلبك وظلك، وأنت أجمل من يأسر قلبي… كل هذا أعرفه، وأعرف أكثر منه، أنك مثلا أصِبتَ بي كما يُصاب عصفور في مقتله، برذاذ الفجر العاشق، أو كما تصاب سماء جافة بغيم تلون بالسواد ليعزّي شمسا خرجت قبل موعدها. لا تقل لي أحبك، ثم تقبلني كما العادة عند عتبة البيت، مثل سارق النار، هذا أعرفه، وشربتُه برفقتك عندما جفّت المدينة وأخافت ساكنيها. لا تقل لا هذا ولا ذاك، ولا حتى ما تنوي قوله لي وحضرته في طريقك لكي تدهش طفولتي الهشة. لا. لا أطلب أكثر من أن تحبني كما العصافير والفراشات والزهور وموج البحر. أريد فقط أن تلوّن لي المستحيل بحبك، لأدوخ مرة أخرى بين يديك، وأنسى جاذبية التيه. لستُ سمكة تفسد من رأسها، لكني امرأة تموت أولا من قلبها. 


أريدك أن تغرقني في حرير أصابعك حتى قبل أن تلمسني، وأن تشعل موتي لأستيقظ فيك من جديد. حولني إلى رماد واطحني كما التربة المحروقة عشقا ثم ازرعني فيك. أنت أمام امرأة لا عين بريئة من حرقها، ولا يد ليس فيها من دمها. أسحرني فقط، واسحبني نحوك من بعيد، وقل لي ما لم تقله للغيم ولا للطير ولا للمطر إذ يعاتب نسيانك وغيابك. شتت كل ما يسجنني وحرذني فيك. منذ أن غادرتك قبل مسافة، وأنا أعيش على جنون عطرك، ودوخة عرقك، وتصيد كل خبر يخصّ قلبك فقط لأقول، حبيبي ما يزال هنا، وما تزال تربة الطفولة في كفيه. فكيف يخون العاشق تربته التي أعطيته يقين الغواية وجنون التيه؟ أسكن فيه برضاي، فلا تلم قلبي الذي اختار الانتفاء فيك حتى يرثني الله والملائكة وبعض الزبانية الخائفين من هبلي ومن أسئلتي، فكيف لعاشقة مثلي أن تهدد عرش الله؟ أي سلاح تملك في سر سوى قلب تخفيه من الموت كل يوم إلى حين وصولك. جئتك حبيبي فقط لأشعر أنك لم تعد لغة يتقاسمها من أحبّوك، ولكنك ملمس وحياة، كما أنك لستَ جملة هاربة في كتاب عاشقة تشتهي أن تفتح أبواب عزلتها وتلون المستحيل. ستضحك مني. هذه أنا ولا ظل ورائي سوى ظلك. ولا سلطان لي عليك إلاّك. أشتهي الليلة أن أكون فقط قطتك التي تلعب بكرة الحرير، وتبعثرها أمام عينيك عن آخرها، ثم تتأملها قبل أن تقفز على خيوطها، غير معنية بالنظام ولا برأي من يرصدها. أريد أن أرفع عرقي وهذه الكأس البيضاء بعطر الغياب واليانسون، نخبك، وأنسى كل الخوف الذي يسرقني منك. أن أرفعها نخب اليوم الممطر الذي لم ينتظرني حتى ألبس له معطف الشتاء وأعبر رياحه وساحته، ولا لوز الربيع ولا حتى مطرية الخريف. فاجأني كما تفاجئ عاشقة حبيبها في غفوة لم ينتظرها. اعذرني حبيبي. امنحني فرصة أن أمارس بعض هبلي عليك. ألستَ أنا إذ أتراءى غيّا وهبلا فيك؟ مثلا، أن أتخفّى فقط لأرى وجهك في دوار اللحظة، في غفلة منك، وألمح هزات قلبك وضياعه. وأقطفك كما الزهرة وأنت في دوار الحنين. حنّ إلي فلا وقت لنا. دقّ العمر على باب الرحيل. هل أصرخ في وجه الله كما بياف في عز جرحها: اتركه لي يا الله ليلة أخرى فقط. أم أصمت لأراك فقط كما اشتهيتك قبل خمسين سنة وانا طفلة تخيفها الشمس والغيوم وقطط الحارة. 

هل حسبت الوقت الذي يفصلنا؟ هل شممت بوصلة الرحيل القاتلة؟ ليس مهما يا هبلي. لن أطلب منك ما لا تستطيع منحه لي. اسمح لي بأن أتمدد قليلا على قلبك فقط لأشعر بأنه ما يزال هنا وأنه يعرفني إذ يشم عطري ويهتز لي حينما يلامسه خفقي. امنحني فرصة امتحان قلبي لأشعر فقط أنك لستَ بعيدا عني، وأن كل ما مضى من خوف مات في ظلّ الموت. هذا الزمن الجميل ليس في مقدوري أن أوقف انسحابه، ولا أن أمنعه من الخروج، لكني أملك سلطان أن أسكِنه عرشي إن هو رآني كما أراه. لا تقل شيئا حبيبي، دعني فقط أدفنني فيك، وأملأني بك لكي لا أندم يوما على فعلٍ نسيت أن أفعله وعلى حرقة أخفقت في أن أشعلها لكني لم أستسلم لطائر الشؤم وعصف ريح الشمال التي كلما قلت وجدتُ أخيرا حبيبي، سرقتك مني. لست امرأة اليأس وان ارتديت كفنا في حزني وبحثت في كل ثانية عن وجه يشبهني. فليس في الحب إلا ما يدهشني ويرميني فيك ثم يمضي. 

دعني أسمع دقات قلبك لحظة يُجن بي، ولا يصغي لأحد غيري. قل لي أنت لي لكي اهدم كل عرشي وأسكنك. قل لي ما لم تقله من قبل لغيري، أو اصمت ودعني أقرأ كل أمكنتي ونيراني فيك. لا تعتذر عن حب خُلق على مقاس عاشقين، لن يركب على غيري وغيرك. حبيبي. امنحني بصرك لأراك، وقلبك لأحيبك، ولذتك لأرضيك وقوتك لأهزك. لوّن مستحيلي، وامنحه غيما يظللني وفرحا لي، ملكي لا شريك لي فيه. اتعبتك حبيبي، اعذرني. من يسكن المستحيل لا يلوم الممكن. إنها تمطر، وأنا ما زلتُ في الشارع أركض نحوك، وأتخيلني أفتح باب غفوتك وأدخل بلا استئذان. حلمي اليوم أن أفاجئك كما فاجأني الغيم والمطر وأنا بلا معطف ولا مطرية، ربما استطعت أخيرا أن أتدثر بك من رعشة البرد، وأنام. أنام طويلا وعندما أستيقظ أراني فيك.
_______
*مجلة روز 

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *