ساعة ضجر


*همدان زيد دماج


عندما جلستُ متراخياً على الدرجات الاسمنتية الباردة، كانت أشعة الشمس قد استطاعت أخيراً اختراق الغيوم القطنية المسرعة التي هجمت على سماء لندن منذ الصباح… وكنتُ حينها أشعر بالضجر.
* * *
كنتُ ضجراً إلى الدرجة التي شعرت فيها بالرغبة في التدخين، وتحسستُ جيب معطفي بشكل تلقائي على الرغم من أنني لا أدخن. لكنني مع ذلك كنتُ منسجماً لرؤية سرب نمل أحمر مبعثر رسم خطاً معوجاً بين فتحتين في جدران الرصيف. كانت النملات تتحرك بنشاط محموم يميناً ويساراً، وتتصادم في بعض الأحيان بعضها مع بعض. وكانت بحيرة «حوض بادينجتون» الصناعية الصغيرة التي أمامي جميلة أكثر مما توقعت. ثمة بطٌ يسبح فيها بهدوء على صفحة المياه التي عكست صور العمارات السكنية الفاخرة المحيطة بالمكان. وكنتُ ما أزال أشعر بالضجر.
* * *
كنتُ قد تذكرت مقولة فلسفية قرأتها بالأمس في أحد الإعلانات التجارية لشركة تأمين عالمية؛ لكنني لم أعد أتذكر من قائلها؛ بل إنني لم أعد أتذكرها الآن. كل ما استطعت أن أتذكره أنها كانت مناسبة، وأن لها علاقة ذكية بقطاري الذي سينطلق من محطة بادينجتون بعد نصف ساعة عائداً بي، «وحيداً ومكسور القلب»، إلى مدينتي الصغيرة في الشمال. نصفُ ساعة ليست بالوقت الطويل، وعليَّ أن أتوجه إلى المحطة الآن. هكذا حدثت نفسي؛ لكنني مع ذلك قررت أن أجلس بتراخٍ على هذه الدرجات الاسمنتية التي غُرستْ فيها بتناسق ساحر مصابيح مخفية. لا أعلم حقاً لماذا!! ما أعلمه هو أن شيئاً ما بداخلي قال لي: «تريث!»، وأنني كنتُ مستمتعاً بسماع صوت موسيقى فلوت ينبعث من مقهى تجاري مجاور؛ ربما كانت لجورجي زامفير أو عازف آخر!… لا يهم حقاً، فقد كنتُ منسجماً للحن الجميل والمألوف، وهذا يكفي. وكنتُ، كما تتوقعون، مازلت أشعر بالضجر.
* * *
هل يعرف الإنسان لماذا يشعر بالضجر؟! أم تراه يشعر به وحسب؟! لا أعرف؛ لكنني كنتُ حقاً أشعر بالضجر؛ ولهذا أخرجت هاتفي الذكي من جيب المعطف الشتوي، ومسحت شاشته الملساء الوسخة بيدي ولعابي، ودعكتها على ركبتي حتى نظفت تماماً، قبل أن أمرر سبابتي عليها وتظهر «صورتها المحببة لدي» على خلفية لوحة المفاتيح الرقمية. بدأت أضغط على الأزرار الافتراضية: 5، 2، 5… لكنني لم أكمل بعد أن تذكرت أنني غير مستعد للقيام بأي شيء، وأن أفكاري كانت مشتتة… لقد تركتني وليس هناك ما يمكنني فعله… تركتني فجأة!… لا أعرف ماذا ينبغي عليّ أن أشعر به!… ما كنتُ أخافه حدث، وها أنا لا أشعر حقاً بأي شيء سوى بالضجر.
* * *
فجأة توقف الزمن؛ عرفتُ ذلك من البط الذي توقف انعكاسه على سطح ماء البحيرة الذي تجمد؛ من الصمت الذي لف المقهى التجاري الذي كانت تنبعث منه موسيقى الفلوت الناعمة؛ من طنين الأذن الذي توقف؛ ومن سرب النمل الذي تجمد بلا حراك. لم أستطع أن أعرف كم من الوقت ظل الزمن متوقفاً هكذا؛ لأن الوقت بطبيعة الحال كان أيضاً قد توقف. كل شيء توقف، ما عدا شعوري بالضجر!
* * *
كم كنت ضجراً! لا أتذكر أنني شعرت يوماً بالضجر إلى هذا الحد، وكاد ذلك أن يكون ممتعاً. بدأ الزمن يتراخى؛ فسرب النمل بدأ بالحركة من جديد، وطنين الأذن عاد يغزو كهوفاً خلفية في جمجمتي… حينها شعرت بألم حاد في بطني، عندما تبادر إلى ذهني إمكانية أن أكون قد تأخرت عن موعد القطار، الذي كان بعد نصف ساعة… كان هذا بالطبع قبل ما يقارب نصف الساعة التي جلستُ فيها ضجراً على هذه الدرجات الاسمنتية الجميلة. لوهلة ترددت في رؤية الوقت. كانت يدي اليسرى تأبى أن ترتفع لتريني الوقت من ساعتي، التي لاحظت حينها أن جزءاً من حزامها الجلدي قد انقطع… لكن قدميّ كانتا بهلع قد بدأتا الركض نحو المحطة.
_______
*نزوى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *