هيثم حسين.. بهجة رمضان بعامودا ورثاء الحاضر





في المحطة الثانية على درب الرحلة مع عدد من الكتاب والمبدعين العرب، للتعرُّف على طقوسهم في الإبداع والكتابة خلال شهر رمضان الكريم، ولفتح صفحات من طفولتهم في شهر الصيام، نسافر اليوم مع الروائي والناقد السوري هيثم حسين الذي غادر بلاده مضطرا ليحط الرحال في إدنبرة، عاصمة أسكتلندا.
يحن صاحب “إبرة الرعب” إلى مسقط رأسه في مدينة عامودا على الحدود مع تركيا، وما كان يسود فيها من أجواء اجتماعية خلال رمضان، ويتذكر خاصة طقوس مراقبة طلقة المدفع التي تتزامن مع أذان المغرب.
لا يخفي هيثم حسين أن كم القراءة والكتابة لديه يتراجع في شهر رمضان بطريقة ما، ويقول إن الأمر لا يتعلق “بقرار معين، بل يعود للجو الرمضاني الذي يفرضه مناخه الديني والاجتماعي”.
في تلك الصورة المفعمة بمشاعر الحنين والغربة والهجرة وبوزن الجوانب الاجتماعية لهذه الشهر الفضيل، يسجل هيثم حسين ارتياحه لأجواء التكاتف المميز الذي تعيشه الجاليات الإسلامية في بريطانيا، ولتفاعل إدارة الكلية في إدنبرة مع ظروف الطلبة المسلمين في هذا الشهر.
وفي ما يلي ورقة الكاتب ردا على عدد من أسئلة الجزيرة نت حول تفاعل الكتاب العرب مع شهر رمضان إبداعا وقراءة واستعادة للطفولة.
حين يحل شهر رمضان ضيفا سنوياً مرحباً به، يفرض حضوره على مختلف الأصعدة الحياتية، يبدأ المرء ببرمجة زمنه على ساعة رمضان وإيقاعه المختلف، وبحسب أوقات الإمساك والإفطار، يقسم نهاره تبعاً للصيغة الرمضانية، فتكون هناك أنشطة ما قبل الإفطار، وأخرى لما بعده، وبينهما يكون التمحور حول الأجواء الرمضانية التي تمنح الزمن الرتيب في العادة معنى، وتكسبه تجدداً في دورته السنوية.
يعيد الطقس الرمضاني الانتباه إلى ضرورة الحرص على العلاقات الاجتماعية، ويبث فيها حميمية، فيفرض بذلك التفكير بتأثير الجانب الاجتماعي على الفرد والأسرة والجماعة، وكيف يمكن أن يسهم ذلك في تقوية الجميع، وتمتين الآليات الدفاعية في نفوسهم، ذلك أن واقع الغربة القاهر يكاد يصيب كثيرا من اللاجئين والمهاجرين بنوع من الكآبة الناتجة عن تقاطعات الغربة والبعد والعزلة.
في الساعات الأولى من النهار أحاول التركيز أكثر على القراءة والكتابة، ذلك أن ساعات ما بعد الظهيرة تحتاج إلى ترتيب آخر، تحتل استعدادات الإفطار الصدارة، ويتحول التركيز إلى المشاركة مع الأسرة في النشاط الرمضاني، والاجتماعي الواجب على هامشه.
لا يخفى أن كم القراءات والكتابات يتراجع في شهر رمضان بطريقة ما، ولا يتعلق الأمر بقرار معين، بل يعود للجو الرمضاني الذي يفرض مناخا دينيا واجتماعيا يتوج بلقاء الجالية العربية والإسلامية في العيد، بحيث يبدد ذلك نوعاً من الاغتراب الذي يشعر به المهاجر واللاجئ عادة.
يلفت انتباهي عادة في شهر رمضان هذا التكاتف المميز الذي تعيشه الجاليات الإسلامية في بريطانيا، تكون هناك موائد رمضانية عامرة مفتوحة في الجوامع، وينتعش التواصل والتفاعل بين أبناء هذه الجاليات، وذلك يفرض علي تساؤلاً لا أكتم مرارته وصداه عن أسباب عدم تكاتف أبناء هذه الجاليات مع بعضهم بعضاً حين يكونون في بلدانهم بهذه الصورة المميزة؟ ولماذا عليهم أن يقاسوا مشقة الهجرة والاغتراب واللجوء حتى يتقاربوا ويتعرّفوا إلى بعضهم بعضاً أكثر؟
تواصل وتراحم
هذا الجانب من التواصل والتراحم والتفاعل يعزز الصورة الإيجابية المأمولة عند الآخرين، لا سيما في هذا الزمن الذي تتمّ فيه محاولة إلصاق اتهامات التطرف ومزاعم التشدد بفئات من المسلمين في أوروبا، ومحاولة تأجيج المواقف المناوئة للمظاهر الإسلامية في الحياة الأوروبية وإبرازها على أنها دخيلة وبعيدة عن روح العصر.
من جانب آخر، لفت نظري هذه السنة موقف معتبر من إدارة الكلية في إدنبرة، عاصمة أسكتلندا، إذ قدمت موعد حفلة نهاية العام الدراسي كي لا يصادف منتصف شهر رمضان، لأن الطلبة المسلمين سيكونون صائمين، وعكس ذلك جانباً كبيراً من التقدير والاحترام لشهر رمضان وللمسلمين عامة.
حين أعود إلى الطفولة يشدني الحنين القاسي لزمن جميل أضعناه، هو حنين مشوب بالتأسي والتأسف معاً. لا أبالغ إن قلت إنني فقدت تلك البهجة التي كانت تغمرني أثناء شهر رمضان في طفولتي في بلدي، أتذكر تلك البراءة الرائعة التي كانت تملأ حياتنا سعادة وجمالاً.
كانت مدينتنا الحدودية الصغيرة عامودا تكتسي بحلل رمضانية، الأسواق تنتعش، الناس يتزاورون ويتواصلون، يتبادلون الدعوات في ما بينهم، وكانت الأسرة الكبيرة تجتمع في البيت الكبير الذي خلا من أهله الآن، وكلّ واحد منّا بات في دولة مختلفة، الأصوات تتعالى وتتقاطع، الصخب المثير الجميل يملأ الأزقة والشوارع كلها، الجيران يتبادلون صحون الطعام في ما بينهم بنوع من التفاعل الأسري الحميم.
طلقة المدفع
كنت أحياناً أمضي مع أترابي إلى مركز المدينة لمراقبة طلقة المدفع التي كانت تتزامن مع أذان المغرب، وكانت إشعاراً بإيذان وقت الفطور، وبرغم أن صوت المدفع كان يسمع لمسافة بعيدة جداً، فإنني كنت أركض بأقصى سرعة في محاولة طفولية بريئة، كانت تملأ كياني سعادة وعظمة حينها، لإخبار أهلي بأن المدفع أطلق، وأنه يمكنهم الإفطار.
وبالرغم من أنهم كانوا قد سمعوا الصوت المدوي، ويتناولون فطورهم، فإنهم كانوا يشعرونني بأنني قدمت لهم جميلاً بإخبارهم، ولا يبخلون علي بالثناء. وفي أحيان أخرى كنت أعتلي سطح البيت لأرى شرارة المدفع قبل سماع صوته، وأشعر بأنني حققت إنجازاً بذلك. 
بعد الانتهاء من الإفطار كنا في انتظار البرامج الرمضانية، سواء كانت مسابقات أو مسلسلات، وكنا نستمتع ونحن نسمع صوت المؤذن في التلفاز ويعلن أوان الإفطار في دمشق وضواحيها، وكنا نكرر لأنفسنا أنّهم سيفطرون بعدنا، نشعر بنوع من الأسبقية أننا فطرنا قبلهم.
أفكر في ذلك الزمن الذي كان جميلاً ببراءتنا، أرثي الحاضر الذي تفسده الوقائع والمستجدّات، وأمني النفس بغد أجمل نعيد فيه البراءة لأنفسنا وللأشياء التي افتقدناها. وهنا سحر رمضان في تقويته الأمل وبثه الأمان والطمأنينة في أرواحنا التي تعاني قلقاً مزمناً لا ينضب.
_______
*الجزيرة.نت

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *