*عدنان الصباح
خاص ( ثقافات )
الماضوية هي فعل الإمساك بالذات عن وعي لإبقائها حبيسة الماضي وممنوعة من إدراك متغيرات اليوم واحتماليات متغيرات الغد وهي الأداة الأقوى بيد أصحاب السلطة الرافضين للتغيير أو التجديد إدراكا منهم أن تغير المعرفة وتطورها يوجب تغيير الحال ليصبح قادرا على استيعاب المتغيرات هذه، وأن كل اكتشاف جديد هو بالضرورة ثورة حقيقية على واقع الحال، وبما أن السلطة القمعية سالبة خيرات شعوبها لا ترغب بتغييرها فهي إذن الأحرص على الإمساك بالماضي لأنه أداتها التي أتت بها وهي إذن بالضرورة حاميتها الأمينة للإبقاء على مكانتها.
الماضوية هي الانغلاق على الماضي ليس كما هو فقط بل وبإغراقه بالعودة للوراء أكثر وأكثر حتى يصبح من غير الممكن لغير صاحبه ان يقدم قراءة حقيقية له أو يمكنه فحص إمكانية حدوثه أو توافقه وأصحاب الماضوية يهتمون بتغليفها بالكثير من الخرافة من باب لفت الانتباه لها ومنحها القدرة على جذب الانتباه ومنع المتلقي من القدرة على مواكبتها مع روح العلم أو العصر وإبعادها عن إمكانية الفحص وهي إغراق في الماضي القائم على خلق صور أكثر جمالية من الواقع القائم ودفع المتلقي بالتالي لقبول الانتماء إلى عالم الماضوية هذا ليجد لنفسه مكانا أكثر قبولا للذات قبل الآخر ويصل الأمر بالماضويين إلى جعل الماضوية سلم قياس للحاضر ومدى فاعليته وقبوله على قاعدة اقترابه من الماضوية وأصولها وتشكل الماضوية
هنا أساس الوعي المكون لسلم القياس للفعل والفكر والسلوك فكلما اقترب الحاضر من التطابق مع صورة الماضي أصبح أكثر التزاما بالمعقول أو المقبول أو المسلم بصحته دون تفكير حتى.
يصل الحال بأصحاب الماضوية حد الإغراق في تبنيها وصولا إلى التقليد الحرفي للصورة فيرفضون كل ما هو جديد تارة لأنه يسلخنا عن تراثنا العظيم أو لأنه بدعة مرفوضة لمخالفته تعاليم الله كما يريدون تفسيرها على هواهم وعادة ما يستند هؤلاء في ماضويتهم هذه إلى الدين حتى لو استخدموا الخرافة قاصدين بذلك منع الآخرين من حق التفكير وإطلاق العقل على قاعدتهم العمياء أن الدين مسلمات لا تناقش ولا يجوز إعمال الفكر فيها ويصل الأمر بهؤلاء حد تقليد الصورة حرفيا فيذهبون إلى الشكل دون المضمون لأن قبول مضامين الفكر حتى الماضوية منها تستوجب التفكير فيها في حين الالتصاق بالفكرة من خلال قبول شكلها وطقوسها يقصد به إعماء العيون والعقول عن القدرة على فحص الأدوات التي تشكل بها الوعي الماضي هذا.
يقسم العرب تاريخهم إلى مراحل أسموها فيما أسموها النشأة والإبداع ثم الانحطاط والنهضة وقد اعتبروا العصر المملوكي والعثماني عصر انحطاط فيما أرخوا لعصر النهضة بالعام 1798 وهو تاريخ احتلال نابليون لمصر وهذا يدل إلى المدى الذي وصلت إليه الحال لدى العرب ليعتبروا احتلال الأجنبي عصرا للنهضة فكل الأمم عادة تؤرخ لنهضتها بإنجازاتها أو حتى إخفاقات أعدائها وصمودها في وجههم والى جانب سائر الأسباب الأخرى وفي مقدمتها سقوط القسطنطينية على يد الأتراك ورفض علماء ومبدعي القسطنطينية التعامل مع الاحتلال كما رأوه مما دفعهم للهروب بإنجازاتهم إلى روما والى جانب ذلك فقد كان السبب الرئيس لنهضة روما هو ظهور صناعة الورق والطباعة وهروب العلماء بمخطوطاتهم إلى ايطاليا خوفا من الأتراك ليشكلوا بذلك أساسا لنهضة أوروبا بأسرها في حين لا زالت كتب العرب الصفراء تتباهي بآلة الطباعة التي احضرها نابليون معه ونسوا جريمة الاحتلال كليا فأي أمة هذه تلك التي تؤمن بأن نهضتها بدأت على يد مغتصبيها.
اليوم تتربع أمريكا الامبريالية الدولة التي بلا ماضٍ يذكر أو جدار من ماضي ترتكز عليه وهي وكل مفكريها حريصون كل الحرص عن عدم الإشارة حتى إلى ماضي معيب كل ما يميزه هو إلغاء امة بأسرها والحلول مكانها وهي تحتل اليوم عرش العالم ليس من باب القوة فقط بل ومن باب الفكر والسلوك والقرار بشان العالم كل العالم وعلى الهامش تسعى بعض الدول لمحاولة إيجاد مكان ما على هامشها لا أكثر، ويبدو للمراقب أن من يواجه المشروع الأمريكي اليوم وايا كان التراث الذي يرتكز إليه فهو يسعى جاهدا لمحاربة المشروع الامبريالي الأقوى فالأمة الصينية التي يمتد تاريخها إلى 1700 قبل الميلاد وهي تعتبر واحدة من أقدم الحضارات على الأرض وتملك اليوم أكبر تعداد بشري لا زالت تعمل مكملا للاقتصاد الأمريكي ومصر حاضنة حضارة الفراعنة التي تعود إلى أكثر من 3000 عام قبل الميلاد تعتبر اليوم واحدة من أكثر بلدان العالم فقرا وتعاني من كثير المشكلات ولم يحمها تاريخها القديم ولا التغني بحضارات وتاريخ يعتبر من أغنى حضارات العالم إبداعا وثراء في الفن والفكر والعمارة وغيرها.
العالم يسعى جاهدا للتخلص من خطر العولمة الامبريالية ولا أحد يكترث لما قاله المهلهل ولا ابن كعب في حين يعيش العالم حالة من العرفان لن تنتهي للعالم أديسون باختراعه الكهرباء ولن ينسى العالم أبدا ولن يختفي أثر مخترع الحاسوب الألماني كونراد زوسة ولا أبطال صناعة الثورة الرقمية والكثير الكثير من مخترعات العصر.
إن امة تمجد ماضيها متناسية عن عمد واقعها المزري ستبقى تقود بذاتها للتراجع دوما وصولا إلى مرحلة التلاشي والغياب عن دائرة الفعل الإنساني وصولا إلى مرحلة كراهية الذات والسعي للتخلص الفعلي من هويتها المتخلفة والمهزومة ففي زمن تسعى الأمم المختلفة إلى البحث عن قواسم مشتركة للتوحد على أساسها سيكون الغياب مصير أولئك الذين يتقوقعون على أنفسهم متغنين بأمجاد لفظية لا تغني ولا تسمن من جوع فالذي يعاود في القرن الواحد والعشرين قضاء وقته في التغني بأبي زيد الهلالي لن يكون لديه الوقت ولا القدرة للمشاركة في صياغة الفعل الإنساني المتقدم نحو الغد وبالتالي لن يكون له هناك مكان في احتفالية إنجازات البشرية على الأرض فعلا لا لغة وقصائد باهتة.
يعاني العالم اليوم من العولمة الأمريكية التي تشكلت من فكر طبيخ الشحاذين المنتقى من كل بقاع الارض وشعوبها بلا ماضي يذكر, فكر قائم على سرقة ملكات الآخرين وممتلكاتهم ماديا وفكريا فلم تكتفي امريكا بسرقة ثروات الشعوب بل سرقت إبداعاتها وانتحلتها لذاتها وباتت تحارب العالم كل العالم موحدة لذاتها ما كان لديهم مفرقا وميت لا حياة فيه.