*خليل صويلح
«ماذا أقول لهم أكثر مما يقوله الكمان للعاصفة؟».
محمد الماغوط
.. ولكن هل رحل محمد الماغوط حقاً؟
حسب مفكرة الغائبين، مضى على غياب هذا الشاعر المتمرّد عشر سنوات(1934- 3/4/2006)، لكن طيفه يزداد حضوراً، سنةً وراء الأخرى، فقد كتب كل ما نحتاجه اليوم من صيدلية الأوجاع. كان مثل طبيب جرّاح في تشريح أمراض الجسد العربي المعطوب، ثم ذهب في إغفاءة طويلة ليقينه بأن شيئاً لن يتغيّر في غيابه. نستعيد الماغوط إذاً، ليس من باب الذكرى، بل من موقع الشاعر الرائي الذي راهن على الكلمة في إعادة الاعتبار للإنسان العربي المكبّل بالأصفاد في جميع أشكالها، فأنشأ معجمه اللغوي الخاص، لجهة الخشونة والقسوة والرفض والاحتجاج والسخط. مفردات محمولة على شعرية عالية وبكارة بلاغية مدهشة، من دون أن يرفقها ببيانات أو نظرية نقدية في كيفية كتابة الوجع.
شاعر الأرصفة المتسكّع جمع مفرداته من جحيم الشارع ووعورة الدروب الجبلية بطينها وحجارتها ورائحة أشجارها، ومثل خيميائي بارع حوّل التراب إلى تبر، معتبراً أن حزبه الوحيد هو الشعر، ذلك أن «المبدع كالنهر الجاري، متى استقرّ تعفّن». لكن فرادة شعر الماغوط، لم تمنع أجيالاً من الشعراء من اقتفاء أثر خطواته وتمثّل صورته الشعرية المبتكرة، ولغته النافرة، وربما لهذه الأسباب، تتفق كل الأجيال الشعرية التي جاءت من بعده على أنه الأب الشرعي لقصيدة النثر العربية، وإذا كانت مقولة (قتل الأب) مسألة مشروعة في الإبداع، إلا أنها مع تجربة محمد الماغوط تبدو مسألة خاسرة حتماً. ليس لدى صاحب «غرفة بملايين الجدران» تفسير لهذا الخراب المقيم في الضلوع، سوى أنه ولد في معقل القرامطة، وظل خارجاً على كل النواميس.
في سنواته الأخيرة، لم يعد محمد الماغوط ذلك المتسكّع والغاضب والفوضوي، هو الذي قال يوماً «لا شيء يربطني بهذه الأرض سوى الحذاء»، فقد داهمته خيانات الجسد. فلجأ إلى عكازين لمساعدته في عبور الشارع، ثمّ اعتزل في بيته تماماً لينتهي به الأمر على كرسي متحرّك.
لن نستغرب إذاً بأن يختار عنواناً أصيلاً لكتابه الأخير يتواءم مع سيرته المضطربة هو «البدوي الأحمر». عنوان يعبّر بعمق عن صورته الأخيرة، فالشاعر النهم للحياة والترحال انتهى إلى عزلة اختيارية، بعدما عاف الشهرة وأضواءها. رجل ضخم وهرم لا يغادر أريكته. سوداوي ومحزون وأعزل، أحس متأخراً بأن الديار طلبت أهلها. الحنين إلى مسقط الرأس أيقظ بداوته الأولى، متخففاً مما علق بها من أمجاد وخيبات وانكسارات وهزائم. فاستبدل بالعتابا التي كان يرويها مغنون مجهولون على الربابة، اسطوانات باخ وشوبرت وبيتهوفن، قبل أن يُدفن في «السلمية» عند حدود بادية الشام، مغلقاً قوس حياته تحت تراب طفولته ويفاعته الأولى، الأرض التي وصفها يوماً بأنها «الدمعة التي ذرفها الرومان على أول أسير فكَّ قيوده بأسنانه ومات حنيناً إليها».
_______
*تشرين