*د. عبدالرحيم مؤذن
تظل تجربة الروائي الأردني- بالرغم من غيابه الجسدي منذ سنوات عديدة- ‘غالب هلسا’ من أهم التجارب الروائية العربية التي تزداد ثراء، وغنى، كلما أعيدت قراءتها من قبل قارئ يجد نفسه أسير عوالمها التي لا يستطيع منها فكاكا. و من أهم ما يميز هده التجربة- قصة ورواية- حفاظها الدائم على المعنى الطازج، والسرد الأليف، والبناء الدرامي المصنوع من مفردات ‘شرطنا الانساني’ الذي يمور بأسئلة الهوية، أسئلةالماضي والحاضر، أسئلة المفارقات المبكية المضحكة التي تناسلت في مجتمعاتنا، والتي لم يجد الكاتب أمام أوضاعها المبكية المضحكة، سوى التشريح الساخر لمختلف علاقاتها الظاهرة والباطنة.
في نصوصه الروائية الشهيرة (السؤال/ الخماسين/الضحك/ ثلاثة وجوه لبغداد..)، أو في مجموعته القصصية المميزة (بدو وزنوج وفلاحون) ظل الكاتب مخلصا لأسلوبه في فضح وتعرية الأوجه الخفية- وبعضها يقدم في طبق من ذهب- للاستبداد انطلاقا من المظاهر اليومية، مرورا بالحوادث المختلفة، سواء كانت جريمة قتل، أو صراعا عاديا، رغبة بسيطة، أوحلما ملتبسا، وصولا إلى علاقة الرجل بالمرأة- وهي قضية مركزية في معظم نصوصه- الوجه الظاهر، والخفي أيضا، للاستبداد بمختلف دلالاته السياسية والاجتماعية والنفسية.
في رواية ‘الضحك’، ينتهي السرد إلى قسم الملاحق الذي لم يتعود عليه قارئ الرواية. فالملاحق، عادة، من نصيب البحوث والدراسات العلمية، بهدف إعطاء مصداقية محددة للمتن المدروس. أما أن تنتهي بها الروايات فهذا يقتضي وقفة، بل وقفات، متأنية تنظر في الاضافات العديدة التي اتسمت بها تجربة الكاتب، في سياق ما عرفته الرواية العربية من تنوع في الموضوعات، وأساليب الكتابة، ومستويات الشخصية.
يحمل ملحق من ملاحق رواية ‘الضحك’ سؤال الشخصية المركزية عن أغزل بيت قالته العرب.؟ وتكون’الاجابة على الشكل التالي: ماذا تقول لأطفال بذي مرخ .. زغب الحواصل لا ماء ولا شجر.
كيف سيكون رد فعل القارئ داخل النص وخارجه أيضا- عند سماعه لهذه الاجابة التي لم تخطر على بال..ااماذا سيقول أصحاب النقد الجديد، من دعاة ‘أفق الانتظار’ وغيرهم، أمام هذا الخرق الأجناسي الذي يحتاج إلى إعادة النظر في ما تعارف عليه المبدعون والنقاد من توصيفات وتسميات ومواثيق قراءة.
والمتأمل للسؤال والاجابة، سيكتشف أصالة التجربة الروائية- والحياتية أيضا- عند ‘غالب هلسا’ بمصادرها المتعددة. فانتماؤه – قولا وعملا- للحركة الوطنية، والتقدمية العربية، خاصة المقاومة الفلسطينية، منحه قدرة فكرية، وإبداعية، على اختيار مواقع الرؤية التي نظر من خلالها إلى ما يمور به المجتمع من مظاهر وظواهر ووقائع ونماذج مختلفة. وهو في ذلك، يختبر مصداقية الرؤية في الواقع، ومصداقية الرؤية في النص عبر السؤال التالي: ما السر في هذا التدمير اليومي الذي يمارسه الحاكم- وليس من الضروري أن يكون حاكما سياسيا- ويخضع له المحكوم- وليس من الضروري أن يكون مسحوقا- إلى الحد الذي أصبح فيه العسف وهذا من أعلى مراحل السخرية- ضرورة يومية لاغنى عنها، يتلذذ بها الحاكم- ساديا ومازوشيا- مخلصا لآليته الدموية، ويخضع لها المحكوم الذي- لطول عهده بالعسف وأشكاله- لم يعد يعرف غيرها من الممارسات، بل إنها الممارسة التي فتح عينيه على مظاهرها المختلفة في العمل والأسرة والشارع والحلم واليقظة.
ولاشك أن تجربة ‘غالب هلسا’ هي نتاج تجربة حياتية- وفكرية- غنية تفاعلت فيها الروافد الماركسية بالمنابع القومية، ومحطات المنفى الدائم، بمحطات الوطن التي لم تسلم من أوضاع النفي والمطاردة المتواصلة، والخلفية النظرية (مجلة المصير الديموقراطي/ ترجمه لكتاب باشلار عن جماليات المكان/ ترجمته لنصوص سردية مختلفة..) بالخلفية الابداعية التي صاغها- إبداعا وسؤالا- في معظم نصوصه الروائية والقصصية. وهو في ذلك يشارك مواطنه (تيسير سبول) الذي انتحر بعد هزيمة 1967، في مواجهة الاستبدلد دون كلل أو ملل. والفارق بين الكاتبين، يعو إلى طبيعة السرد عند ‘سبول’ الذي يقوم على التشظي الحكائي للظاهرة، بلغة مسنونة، وضربات عنيفة أشبه بضربات فرشاة لوحات ‘فان جوخ’ التي تشبه آثار أظافر جسد مسحول فوق الصخر، وبقوم هذاى السرد’ـ من ناحية أخرى- عند ‘هلسا’ على الاستبطان الهادئ للعلاقات الانسانية، والانطلاق في تقشير أقنعتها المزيفة التي تحكم مختلف مسلكياتها في مختلف المجالات. ومن ثم انطلق السارد، عند ‘غالب هلسا’، في رصد التحولات المبكية المضحكة، بلغة تقوم على التحليل العميق، من جهة، وعلى المزاوجة بين المحكي والموصوف، دفعة واحدة، من جهة ثانية، سواء تعلق الأمر بصراع الدات مع الذات، أوصراع الذات مع الذوات الأخرى.
بعودتنا إلى بيت الحطيئة الشهير، والوارد في أحد ملحقات رواية ‘الضحك’، نلمس خصيصة أخرى تميز بها سرد الكاتب. تلك هي خصيصة السخرية التي شكلت موضوعة مركزية في معظم نصوصه الروائية والقصصية. أو بعبارة أخرى: لم يقتصر توظيف السخرية، عند الكاتب، على وظيفتها الموضوعاتية، بل امتدت إلى جانبها التشكيلي، لتصبح أداة سردية لصياغة العالم الروائي فضاء وشخصيات ولغة زمواقف. هكذا تجاوزت السخرية الهجاء، حينا، والدعابة، حينا آخر، ‘الكاريكاتورية’ حينا، والنقد حينا آخر، تجاوزت كل ذلك، لتصبح وسيلة مركزية على حد تعبير ‘لوكاتش- لـ(تجاوز تعاستنا الحاضرة). وعلى هذا الأساس لم يعد الغزل هو تعداد لمحاسن المرأة، بل هو تعداد لمظاهرالخلل في المجتمع. إنه خرق جديد، من قبل الجنس الأدبي، على حدتعبير ‘تودوروف’، لما هو متعارفعليه في النص والذائقة والمجتمع. ما المانع ألا يتغزل الكاتب’في موضوعات غزلية، لا أول لها ولا آخر، يبدعها مجتمع يبدع العجائب في كل وقت وحين. ؟ رحم الله ‘غالب’، ولاغالب إلا الله/.
________
*(القدس العربي)