*قيس قاسم
ينكأ المخرجان ميشا غرين وجو بوكاسكي جروح العنصرية بالعودة الى تاريخ العبودية في أميركا، عبر مسلسل درامي استوحى أحداثه من تجربة «طريق سكك الحديد السري» التي أطلقت على العمليات السرية لتهريب العبيد وتطوع للعمل فيها أميركيون بيض وسود. «أندرغراوند» عنوان مسلسل تلفزيوني يختصر طريق الآلام الطويل، الذي كان على السود الهاربين من جور مالكيهم البيض في الجنوب قطعه بكل ما فيه من مجازفات للوصول الى ولايات الشمال أو العبور منها الى كندا، التي حرمت قوانينها «تجارة الرقيق»، فصارت ملاذًا آمناً للناشدين منهم الحرية.
تحكي أحداث المسلسل كيف كان يحيا السود حياتهم في ولاية جورجيا عام 1857، أي قبل أربع سنوات من اندلاع الحرب الأهلية بين الشمال الأميركي وجنوبه، عبر مجموعة منهم كانت تعمل في حقول زراعة القطن من دون مقابل، باعتبارهم لا حقوق لهم، يكفي أن يوفر لهم سيدهم مقابلها بعض الطعام وله كامل الحق في استغلالهــم مثل أي بضاعة أخرى لديه. أما إذا صدر منهم تصرف ما لا يروق له، فسيتعرضون للجلد والتعذيب وحتى القتل، كما كان يفعل توم ماكون (الممثل ريد دايموند) مع العاملين لديه ويعاملهم كـ «حيوانات» لا قيمة لها، أجسادهم مباحة له ولغيره من البيض يتصرفون بها كما يحلو لهم.
من جوانب قوة المسلسل أنه لا يتردد في عرض الصور البشعة لذلك الاستغلال ولن يتردد في تجسيدها بكل تفاصيلها المؤلمة على الشاشة مثل تفاصيل تمزيق السياط لجلود السود.
وفي بيوت الأغنياء كانت النساء يتعرضن للاغتصاب والاستغلال الجنسي ممزوجاً باحتقار صارخ من أصحاب المزارع وعائلاتهم. كل ذلك قُدم بصورة رائعة تفاصيلها وقوة توصيلها درامياً تذكرنا بالحكايات والأحداث المشابهة التي قدمها فيلم «الجذور».
حبكة المسلسل تدور حول محاولة نوح (الممثل ألديز هوج) الهروب من حقول العبودية. أقنع مجموعة من زملائه بخوض المغامرة وعدم التفكير في الأخطار التي تحيط بها، لأن الموت أهون ألف مرة عليهم من حياة البؤس التي يعيشونها.
أكثر من نصف المسلسل يكرس لعرض رحلة الهروب التي لم ينجُ منها سوى عدد قليل، في حين قتلت البقية على أيدي «صيادي العبيد»، أو تمت إعادتهم الى مالكيهم لينالوا عقابهم على أيديهم. تعكس تفاصيل عملية الهروب الكبيرة الأوضاع العامة في الجنوب الأميركي خلال القرن التاسع عشر وظهور ميول فردية رفضت «تجارة الرقيق» وانتهاك آدمية البشر، جسدها عملياً أشخاص تطوعوا لإخفاء السود الهاربين في بيوتهم وساعدوهم للوصول الى بر الأمان بكل السبل مع كل ما ينطوي عليه عملهم من أخطار وعقوبات قانونية تصل الى حد الإعدام.
في كل مرحلة من مراحل الهروب السرية عبر طرق محفوفة بالأخطار الطبيعية والمواجهات المسلحة مع العنصريين الجنوبيين، يقدم المسلسل قصة مؤثرة تحكي جانباً من المظالم التي كان يتعرض لها بشر جرمهم الوحيد، الذي يستحقون عليه تلك المعاملة الوحشية؛ انهم ولدوا سوداً. لا يتجاهل صناع المسلسل ردود الفعل الانتقامية عند بعض الزنوج.
اللافت في المسلسل رفضه تدوير الزوايا وإصراره على الخوض في موضوعات ظلت بعيدة عن تناول الأعمال التلفزيونية الأميركية مثل التمييز الذي يتعرض له أولاد الزنوج من آباء بيض من جانب السود أنفسهم، وقد حاول المسلسل تجسيدها من خلال شخصية الشابة روسلي (الممثلة جورني سمولي – بيل) التي ولدت من مالك أبيض تنكر لها، وحين شرعت بالتقرب أكثر من أبناء جنسها وقررت الهروب معهم صدها بعضهم وعاندها، بالمقابل كانت هناك عينات من السود خانت «عرقها» ووقفت الى جانب سيدها.
لهذا وغيره من الجوانب الحساسة في العلاقة بين البيض والسود خلال مرحلة «العبودية»، جاء «أندرغراوند» متميزاً جاداً اقترح قراءة موضوعية ومتوازنة لمرحلة مهمة من التاريخ الأميركي انقسمت بسببها البلاد الى قسمين وتوجهين سياسيين كانت الغلبة فيه الى الشمال الديموقراطي، ومع هذا يلمح المسلسل في مشهده الختامي بشجاعة الى وجود بقية من بذرة العنصرية حتى اليوم.
روعة النص المكتوب والأداء التمثيلي الرائع لمعظم أبطاله بخاصة أداء الممثلة أميرة فان الى جانب البذخ الانتاجي الذي وفرته شركة «دبليو جي أن»، اجتمعت كلها لتحقيق مسلسل ناجح يحترم المشاهد ويلتزم بشروط العمل الدرامي الجاد، ينتمي بقوة الى الجيل الجديد من الأعمال التلفزيونية الأميركية الشديدة القرب من السينما بكل جمالها وروعتها.
___
*المدى