*خيري منصور
في مقدور القارئ الحصيف أن يحزرهم واحدا واحدا، هؤلاء الذين أصبحوا شعراء وأدباء بالعدوى، سواء كانوا من المشتغلين في الصحافة الثقافية أو من المذيعين، حيث تبدأ المسألة باستعانتهم بذوي الاختصاص من أجل صياغة أسئلة، أشبه بوصفة شاملة تصلح لكل من يستضيفونهم، ونادرا ما ينفق معظم هؤلاء ولو قليلا من الوقت والجهد لاستقراء نصوص الضيف وليس قراءته أفقيا فقط، والمفارقة أن من يفعلون ذلك ويحرصون على تطوير وترقية أدائهم المهني يتلقحون ضد العدوى كي لا يصابوا بما أصيب به الغراب الذي حاول تقليد مشية الحمامة، ففقد المشيتين معا.
أما إغواءات العدوى فهي تتطلب أولا ضعفا في المناعة المهنية والشخصية لدى من يتعرض للإصابة، وهنا أتذكر عبارة لإدمان عن الشعر باعتباره سيئ الحظ لأن قماشته كما يقول هي الكلام به، الكلام الذي نشتبك في الخصام ونتدفأ به في العلاقات الحميمة، وهو أيضا الكلام الذي نشتري به سلعة ما ونطلب به شرابنا وطعامنا، وبهذا المعنى فإن الفنون التي قماشتها ليست الكلام كالفن التشكيلي والباليه والموسيقى تعتبر محظوظة، لأن مجال الاشتباك فيها بين الموهوب والموهوم يكاد أن يكون معدوما، رغم أن من يترجمون كل شيء حتى صمت التمثال إلى كلام يهمشون اللوحات والموسيقى حين يترجمونها إلى لغة، ولعل هذا ما دفع موسيقيا طلب منه أن يشرح معزوفته، فأعاد عزفها وصمت.
إن ظاهر الفن والقرائن المصاحبة لمن يمارسونه يبدو سهلا، بحيث تكفي بضع أدوات كي ينال المرء الاعتراف، والحقيقة بعكس هذا تماما، لأن الإبداع يُنجز في ذروة العزلة، ويكون المرسل إليه مُتخيّلا وأحيانا يكون المطلق، بحيث تكون الأنوثة المطلقة هي البديل عن امرأة بعينها وكذلك الصفات الأخرى حتى لو كانت لشجرة، والقول المأثور عن الشجرة التي تحجب الغابة والغابة التي تحجب الشجرة يقبل تأويلات لا نهاية لها ومنها أن تحجب الأنوثة المرأة، والذكورة الرجل، كما يختفي الجميل وراء الجمال.
ما يغيب عن ضحايا الإصابة بعدوى الكتابة على اختلاف حقولها هو أن الإنسان يحتاج إلى ولادة ثانية كي يغير مجرى حياته، لكنه في هذه الولادة القيصرية العسيرة يكون قد ناب عن أبيه في إنجاب نفسه وناب عن أمه في الحمل أيضا، وفي الثقافة العربية ثمة ظواهر تستحق الحفر في هذا المجال، ومنها المجال المغناطيسي لبعض الألقاب ومنها لقب الشاعر، وإن كان لقب الروائي أو الروائية قد بدأ ينافس لقب الشاعر في العقود الأخيرة.
لهذا ما من تفسير لإقبال زعماء سياسيين على الكتابة إلا تلك المغناطيسية الموروثة للألقاب الأدبية، وحين يكتب جنرال مجموعة قصصية يتردد في نشرها حتى الهواة فذلك أمر يتطلب تحليلا سايكولوجيا، وهذا ما تكرر عندما كتب زعيم سياسي آخر روايات لا نعرف عدد من تناوبوا على إعادة صياغتها، بحيث انتهت في النسخة الأخيرة إلى طلاق بائن بين المؤلف والرواية. وحكاية الشغف بالألقاب في عالمنا العربي تطول، ورغم كثرة دلالاتها إلا أن أهم دلالة لها هي أن المواطن الفرد المجرد من الألقاب لا قيمة له، إذ لا بد من إضافة صفات تميزه عن بقية الناس لهذا حمل البعض من الساسة وحتى الأدباء ما لا يطيقون من الألقاب، وعندما حاول أحدهم إسقاط هذه الثقافة على جان بول سارتر شعر الرجل بالفزع وصاح بأحد أصحابه طالبا منه أن يقتسم معه هذه الحمولة الباهظة، وقال كلمته الشهيرة بل الخالدة: إن له لقبا واحدا هو القارئ ولا شيء آخر.
المصابون بعدوى الكتابة من خارج سلالتها غالبا ما يصبحون راديكاليين وغلاة، فهم أكثر ملكية من الملك وأكثر كاثوليكية من البابا، ومرد هذه الراديكالية وهذا الغلو إلى إحساس دفين بأنهم طارئون وثقافتهم برمتها تتسم بـ»البعارة»، واستعير هذا المصطلح من فلاحي قريتي، فهم يطلقونه على من ينتظرون نهاية المواسم، خصوصا موسم الزيتون وبعد اكتمال القطاف يذهبون لالتقاط ما تبقى من الثمر، وله اسم يليق به في معجم الفلاحة رغم عدم معرفتي بجذره الاشتقاقي هو القرقيع، لأنه يوحي بالصخب وبمن يتحولون إلى ظواهر صوتية كالطبول بسبب امتلائها بالهواء.
إن ظاهرة هذه العدوى ليست جديدة لكنها أصبحت أكثر وضوحا وانتشارا بسبب الفائض الفضائي وسُعار الميديا التي تحتاج إلى علف على مدار اللحظة وليس الساعة فقط، وهناك حقيقة قد تعيننا على إضاءة هذه الظاهرة من مختلف الزوايا، هي أن العسل المغشوش أكثر حلاوة من العسل الطبيعي، وعصير البرتقال المصنّع أكثر برتقالية من البرتقال ذاته، وأظن أن النقد يحذر من الاقتراب من الشعراء والكتاب بالعدوى لأنه يحاول ما أمكن أن يتقي راديكاليتهم وغلوهم وما يرشح من إحساس المريب الذي يوشك أن يقول: خذوني أو بمعنى آخر أعيدوني إلى مهنتي.
___
*القدس العربي