*خميس بن بريك
يوقظ نباح “كلاب الجحيم” -للكاتب التونسي إبراهيم الدرغوثي- مع قراءة الحروف الأولى لروايته، حواسَ القارئ، فيشد تركيزه لما جرى من أحداث تاريخية عاشتها منطقة الحوض المنجمي بالجنوب التونسي، التي حاصر النظام السابق مدنها واضطهد أهلها.
“نباح! يا لهذا النباح! نباح أجش كنباح كلاب الجحيم يدوّي في الغرفة حتى أخاله يأتي من تحت سريري. منذ بضع ليال أستيقظ مذعورا، فأجد مخدتي مبللة بالعرق وجسدي غارقا في بحر من الماء اللزج..”، هكذا حاول الراوي أن يجذب القارئ ليتابع قصته من خلال نباح كلاب الشرطة المسعورة.
واختار الدرغوثي أن يدون ما حدث من وقائع واشتباكات في منطقة الحوض المنجمي التي كانت عصية على حكام البلاد منذ عهد “البايات” حتى الزمن الأخير لحكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، من خلال الرواية التي يعتبرها “وثيقة هامة يستدَل بها لقراءة الوقائع ومحرارا حقيقيا للتاريخ”.
وهذا العمل الروائي يسرد جوانب مهمة من الحياة التي عاشها السكان في جهة الحوض المنجمي وما عانوه من اضطهاد وكبت للحريات وقمع عنيف لاحتجاجاتهم ضد البطالة والتهميش في منطقة تنتج الفوسفات، “فلا ينالون منه سوى التعب والفقر والأمراض الخبيثة الناتجة عن مخلفات مغاسل الفوسفات”.
نعمة ونقمة
وبأسلوب مجدد يتفنن الدرغوثي -وهو نائب اتحاد الكتاب التونسيين وحاصل على عدد من الجوائز الأدبية- في المراوحة بين الحداثة والتراث وبين الأسلوب الواقعي والعجائبي، لإيصال رسائله للقارئ الذي يخيل إليه أنه في حكايات “ألف ليلة وليلة”.
وسعيا منه إلى تطوير النص الروائي العربي الحديث في الشكل والمضمون، كتب الدرغوثي روايته الجديدة عن تحول مناجم الفوسفات من نعمة إلى نقمة على الأرض والبشر في شكل مقامة باستعمال السجع والبديع، دون أن يهمل بقية الأساليب في الكتابة الحديثة، فجاءت في شكل مقامة دون أن تكونها.
مع بداية الفصل الأول من الرواية بعنوان “غراب على الشرفة في مستشفى المجانين”، ينطلق الراوي في تصوير الحالة النفسية لشخصيته الرئيسية التي عاشت انتفاضة الحوض المنجمي ضد قمع نظام الرئيس بن علي، بسبب إرهاقها من نباح كلاب الشرطة الذي يقرع دماغها.
يربط الكاتب في فصول الرواية (39 فصلا) التي فضحت جرائم النظام السابق في حق المحتجين السلميين في الحوض المنجمي الذين طالبوا بالكرامة والحرية والتنمية، بين أحداث وشخصيات واقعية عاصرت تلك الحقبة وأيضا بين أحداث وشخصيات عجائبية مستمدة من المعجزات والخيال و”الفانتازيا”.
ويظهر عند قراءة “كلاب الجحيم” أن الكاتب حاول توثيق ما وقع من انتهاكات الشرطة بحق نقابيين ونشطاء وعاطلين عن العمل من خلال إعادة نشر بيانات حزبية ونقابية وحقوقية، لكنه أضاف خيالا عجيبا على بعض الوقائع مثل وقوف شخصيات جنية إلى جانب المحتجين ومساعدة السماء لهم.
أسلوب عجائبي
واستلهم الكاتب آيات قرآنية ومعجزات إلهية لترسيخ أسلوب عجائبي في روايته، حيث تحدث عن “طيور الأبابيل” التي ترجم سيارات الشرطة بقوارير من لهب، وتحدث في فصل “السماء تمطر دما وضفادع” عن غضب السماء على رجال الشرطة الذين حاصروا المدن في مشهد يذكر بما حدث لفرعون.
حول هذا يقول الدرغوثي للجزيرة نت إن “النص الروائي الحداثي ما عاد يكتفي بتصوير الواقع، لأن الواقعية وحدها ما عادت تفي بحاجة المتلقي الذي يعيش في عالم عجيب أشبه بالخرافة”، لذلك تحتم عليه أن يبحث عن وسائل جديدة في التبليغ تشد المتلقي وتقربه من عوالمه الإبداعية والفنية.
ولم يجد الكاتب -الذي يصف نفسه بأنه “تلميذ نجيب لشهرزاد الحكاية”- سوى الأسلوب العجائبي لإيصال رسائله التي تنبش في عمق أحداث الحوض المنجمي الغني بالفوسفات والفقير بالاستبداد خلال فترة حكم النظام السابق الذي أعطى أوامره بإطلاق النار واعتقال المعتصمين وتضليل الرأي العام.
سحر رواية “كلاب الجحيم” يأسر القارئ حتى النهاية التي تدعوه للاجتهاد من أجل فك رموزها وطلاسمها، فبعد أن كانت كلاب الشرطة المسعورة تنهش لحم الأطفال والنساء والشيوخ المضطهدين مثيرة الخوف والرعب، باتت في النهاية جيفة ميتة تحيط بها ألغاز كثيرة حول ملابسات موتها.
يقول الكاتب “إن من يرغب في الاستمتاع بنصي الروائي عليه بالاجتهاد حتى يفوز بقراءة تقدم له الإفادة والمتعة في نفس الوقت، فليست هي بالمستغلقة على الفهم ولا تلك التي تعطي نفسها للقارئ الكسول، بل هي تلك الكتابة الحداثية التي تضع نقاطها على حروفها وتدعو القارئ إلى فك رموزها”.
____
*الجزيرة.نت