*شيرين عبده
بليغ حمدي الملحّن الذي كانت حياته مأساة هو من الملحنين الذين يؤلفون بمجرد سماع الكلمات، في تلحينه شيء من الفطرة، ينتمي إلى التعبيرية في الموسيقى واستطاع أن يلحّن للكبار ومن بينهم أم كلثوم التي حوّل في غنائها عدا عدوية وشادية ونجاة الصغيرة.
ليست الحياة الشخصية لبليغ على عدم اعتياديتها وحوادثها المشهورة هي أهم ما يذكر عند الخوض في سيرته، فتاريخه الفني مليء بالتساؤلات الفنية الموازية التي تجعل ترك الشخصي واجبا أمام الفني. كمّ المطربين الذين غنوا من ألحان بليغ كبير لكن الجدير بالتوقف عنده هو التباين الشديد بين هؤلاء، من حيث طبيعة الأصوات وخاماتها أو شخصياتها أو طبيعة الألحان التي قدمها لها والتي يصعب التصديق بأنها كلها تنتمي لملحن واحد.
بليغ ابن حي شوبرا الذي يمزج الشعبي بالمودرن، ولعل ذلك سبب تشرّبه الأعمال الموسيقية التراثية التي اقتبس بعضها في ألحانه في حين خلق جملا لحنية تبدو وكأنها من التراث لتشابه الروح والتأصل وليس من باب التقليد. (ومنين نجيب الصبر يا اهل الله يداوينا) بالطبع للأبنودي وكلماته دور عظيم في اقتباس روح الفلكلور عند بليغ، أثناء ترجمته وتلحينه لها، وأيضا لصوت محمد رشدي ذي الطبيعة الشعبية الصارخة التي لم تتوافر لصوت آخر لا سيما عبد الحليم ولا لأي من الأصوات النسائية التي عاصرها بليغ، وكان هذا الثلاثي ذو نجاح شعبي مكتسح خُلِّد حتى اليوم برغم توقفه عند البدايات.
بليغ من الملحنين القلائل التي تظهر شخصيتهم في ألحانهم على اختلاف المطرب لتزاحم شخصيته وهو يغني اللحن ويمكن الجزم بأن العمل من ألحان بليغ بمجرد سماعه. البناء التشريحي للأغنية عند بليغ في الأغلب هو مقطع سعيد يعقبه مقطع حزين، في تتابع أشبه بموجات الاكتئاب ثنائية القطبين الحادة وربما عانى منه بليغ بالفعل كأغلب مرهفي الحس وظهر عن غير عمد أو بعمد في ألحانه بهذا الشكل، حيث المقطع السعيد راقص للغاية ومتفائل يعقبه المقطع الشديد الحزن والظلمة حد الموت، ولعل القليل من ألحانه حافظت على الجو الواحد من البداية للنهاية في وحدة بناء درامي على خط مستقيم وليس في صورة الزجزاج العاطفي الرأسي المجهد للمستمع قدر ما أتعب بليغ ذاته.
موعود
ألحان بليغ لوردة يمكن القول بأنها أقل الألحان التي غنتها حرفية ومناسبة لصوتها وشخصيتها التي ظهرت أكثر موائمة لألحان محمد عبد الوهاب وأعاد اكتشافها صلاح الشرنوبي في التسعينيات. ربما عاد ذلك إلى طغيان شخصية بليغ على اللحن عن صوت وردة وشخصيته.
روحي وروحك حبايب
مليت من الغربة
المؤكد أن بليغ ملحن أخضع أصوات الكثير لشخصية ألحانه فنجح بعضهم بها نجاحا مدويا بينما اختفى وتاه وسطها آخرون وضاعت أصواتهم فيها. من أنجحهم كان عبد الحليم بالطبع، ولكن صباح تحديدا تألقت في ألحانه ولا نبالغ إذا قلنا أن ألحان بليغ هي ما رسم شخصية صوت صباح الحقيقية خارج ما اعتادت غنائه من أغان جبلية ودبكات لبنانية بحكم مولدها ونشأتها.
يانا يانا، عاشقة وغلبانة
الصوت الوحيد الذي أخضع بليغ لشخصيته هو عدوية، الذي لن تتخيل أنه غنى من الحان بليغ ياختى اسملتين وبنج بنج، تحمل كلا منهما روح بليغ في المقدمات الموسيقية فقط وتتلاشى بمجرد دخول صوت عدوية مغنيا ليصبح هو الشخصية الوحيدة المسيطرة على المشهد أو الأغنية بمعنى أصح.
ما قاله محمد فوزي لأم كلثوم عندما قدم لها بليغ بأن ألحان الأخير ستعيش لستين عاما على الأقل يتذكرها ويرددها الناس كان نبوءة في محلها تحقق أغلبها بالفعل، ولعل السر في ذلك كيف أن بليغ كان ملحنا تلقائيا يلحن فور القراءة على الأغلب. هذه الفطرة تنتج جملا سهلة التذكر وتعلق بالذهن خصوصا إذا كانت على قدر من الموهبة والأصالة كما أنتج بليغ. وأفضل مثال على ذلك كيف أن أغنية «مستنياك» لمطربة لم تلاق حظا مثل عزيزة جلال تغنّى حتى اليوم وربما ظلت المطربة الأصلية مجهولة بينما الأغنية خلدت وتجددت كأنها وليدة اليوم.
وهناك مطربون نجاحهم بني بالكامل على ألحانه مثل ميادة الحناوي في أغانيها الطويلة التي نافست العديد من المطربات على ألحانه وكان لها نصيب الأغلب من الأغاني الطويلة بالفعل من ألحانه.
كان يا مكان، حبينا
الأغاني ذات الوحدة الواحدة أي التي لا يتأرجح فيها بليغ بين القطبين بحدة، قليلة للغاية مثل اه لو قابلتك وحنين لوردة ولعلهما أنسب ما لحن لصوتها حيث ظلمهما معا الأغاني الطويلة التي لحنها لها، فلا خدمت شخصيتها ولا كانت على مستوى الجودة الذي يقدمه بليغ عادة في ألحانه لغيرها.
ويمكن القول إن بليغ من الأهمية بحيث أنه مثّل مرحلة انتقالية وكاملة في تاريخ أغاني أم كلثوم الطويلة، واحتفظ بشخصيته في ألحانه ظاهرة بالرغم من حجم صوتها وشخصيته المسيطرة، وأيضا هو جزء كبير من تاريخ شادية وأغلب ما غنته به روح الفلكلور يمكن بسهولة استنتاج أنه ينتمي لبليغ.
ظهرت شخصيتها وأسهمت في تكوينها ألحان بليغ وأشهرها أنا بستناك، واختلفت شخصية بليغ عند التلحين لنجاة عن تلحينه للآخرين وربما كان ذلك لطبيعة صوت نجاة الخاصة وبالتبعية متطلباته الخاصة وصعوبة تمييز أصحاب ألحان أغانيها.
من الأسماء الكبيرة التي لحّن لها بليغ أغنيات منفردة فايزة أحمد، محرم فؤاد، محمد عبده، هدى سلطان، طلال مداح، فهد بلان، محمد العزبي وعفاف راضي.
على قد ما حبينا، يا بهية وخبريني
الأجيال الجديدة نسبيا في الثمانينيات والتسعينيات حظيت بفرصة للتعاون مع بليغ، سواء بشكل مكتمل في ألبومات كما في حالة سميرة سعيد وهاني شاكر، أو في شكل أغنيات منفردة مثل محمد الحلو وأصالة وعلي الحجار وداليدا ولطيفة.
موهبة التلحين لغير الأصوات المصرية على اختلاف نطقها ولفظها وطبيعة أصواتها المتوارثة أو المكتسبة هي موهبة منفصلة عن التلحين وحظي بليغ بالاثنتين بسلاسة متساوية.
التعبيرية
المدرسة التعبيرية التي كان بليغ منتمياً مخلصاً لها هي السر في اتجاهه لعمل المسرحيات الغنائية الكاملة أو وضع الموسيقات التصويرية لأعمال مسرحية وأفلام أشهرها شيء من الخوف، ريا وسكينة وأخرها ليالي الحلمية.
في هذه التجارب نرى وحدة العمل والبناء الدرامي المنطقي اللتان افتقدهما بليغ في تلحينه للأغاني الطويلة في الأغلب، بالطبع للكلمات دور كبير في الاتجاه الذي تسوق الملحن إليه دراميا وفي وحدة النص، ولكن الملحن هو من يختار حدة الجو الذي يوضع فيه اللحن وموجاته العاطفية، وبليغ كان منتمياً مخلصاً إلى المدرسة التعبيرية في التلحين بحيث ترجم الكلمات والصور الشعرية إلى ما يشبه الموسيقى التصويرية ثم استدرجنا بها إلى الغناء وكأنه كتب فوقها لا العكس في إضافة للمشهد وكأنه راو ثم فتح الستار.
وفضلت مستني بآمالي ومالي البيت…ملاها الدمع يا حبيبي
وفعز الأمان ضاع مني الأمان…زي الهوا
من الوصف الحزين للترقب والتشويق إلى وصف السعادة الحزين المنذر بفقدانها، حزين لكن راقص، إلى الذروة الدرامية برد فعل الحبيب، وحتى الخاتمة المأساوية بفقد الأمان إلى التحسر وخيبة الأمل الراقصين أيضا في أرجوحة عاطفية عاصفة. زي الهوا فعلا.
_________
*السفير الثقافي