إكرام لمعي
قام المركز القومي للترجمة بترجمة ثلاثة كتب متصلة بالأديان «بيولوجيا السلوك الديني ــ الجذور التطورية للإيمان والدين» مجموعة أبحاث تحرير: جي. ر. فيرمان وترجمة شاكر عبدالحميد، والآخر «الأنثروبولوجيا ــ الاجتماعية للأديان» تأليف كلود ريفيير ترجمة وتقديم أسامة نبيل، والثالث «منابع تاريخ الأديان» ترجمة: فوزية العشماوي. لقد سعدت بهذه الخطوة الشجاعة التي قام بها المركز، لأن معظم مثقفي مصر يعتبرون الدين ثقافتهم ومصدر كل ثقافة، ولا ثقافة خارج الدين. والأقلية منهم ينقسمون إلى قسمين: الأول يهمش الدين على أساس أنه ليس من الثقافة، بل هو من عوامل تراجعها، والثاني يعتبر الدين جزءاً من الثقافة العامة بجوار التاريخ والأدب والفنون.. إلخ.
في ندوة أدارها مدير المركز المجتهد د. أنور مغيث لتقديم ونقد هذه الكتب يوم الخميس 10 مارس 2016، والتي شارك فيها المترجمان أسامة نبيل وشاكر عبدالحميد؛ قمت بتقديم كتابين «منابع تاريخ الأديان»، و«الأنثروبولوجيا ــ الاجتماعية للأديان». وسوف أشارك معك عزيزي القارئ تحليلاً ونقداً للأول الذي يشرح أن علم تاريخ الأديان بدأ في الثلث الأخير من القرن 19 في أوروبا، وقد تنازع على ظهور هذا العلم تياران الأول تيار المؤمنين، الذي يتوجس ويرفض البحث العلماني ــ غير المتدين ــ للدين؛ أي أنه يرفض النقد العلمي للكتب المقدسة، أما التيار الثاني فيأتي من معظم أتباع العلمانية الملحدة الرافضة لدراسة الدين وتاريخه وأبعاده؛ لأنه باب خلفي لإرجاع الدين إلى الواجهة.
***
في بداية الكتاب يتساءل المؤلف عن معنى الرغبة في إدخال كلمة «دين » في المقدمة الخاصة بالدستور الأوروبي أو العكس بالحرص على عدم التنويه بتاتاً؟! ولقد أخذت على المؤلف أنه لم يتحدث عن مرحلة ما قبل الأديان السماوية؛ فمن المعروف أن التاريخ الإنساني مر بمراحل: مرحلة الشعراء وأشهرها الإلياذة والأوديسا وكانا يُحفظان عن ظهر قلب وبهما مبادئ أخلاقية يتبعها الإنسان مع وجود الأبدية، فقد نزل أودسيوس إلى الجحيم ليعيد شاعراً إلى الحياة، ثم بعد مرحلة الشعراء جاءت مرحلة الفلسفة، والتي قامت بإضفاء العقلانية على الأساطير، وكانت الحضارة اليونانية نقطة البدء. فقد قدمت الحضارة المصرية خبرات عملية في هذا الشأن حيث تحول أمازيس من إنسان عادي إلى إله كما يحكي هيرودوت (570 ــ 526 ق.م)، ومن المهم هنا الإشارة إلى كتاب «نصوص» لشاعر ألماني يدعى فريدريش هولدرن (1770 ــ 1843 م) يتحدث فيه عن سقراط (469 ــ 399 ق.م) باعتباره لغزاً محيراً، فقد اعتبره كثيرون نبياً لأنه بادئ ذي بدء لم يعترف بالآلهة الوثنية الموجودة في عصره، حيث يذكر نص دفاع سقراط عن نفسه في المحكمة يقول: «يا بني أثينا كم يكون سلوكي عجيباً وغريباً لو عصيت الله لأنقذ نفسي منكم واعترف بآلهتكم إني أخاف الله» قال القضاة: لو توقفت عن هذا الهراء الذي تقول عنه «البحث والتفكير» سوف نبرئك، أجاب: «إذا كان شرط إخلاء سبيلي هو أن أتوقف عن التفكير فلن أفعل، أنا أحبكم وأمجدكم لكن لابد أن أطيع الله لأن طاعته مقدمة على طاعتكم وطاعة الناس». يقول المؤلف هل يمكن القول إن الوحى والفلسفة التقيا عند سقراط، فهل هو نبي بعث في عصره؟ يقول أيضاً هل يمكن القول إن رسالة سقراط كانت رسالة ذات جذور سماوية؟ خاصة تحدث تلاميذ سقراط عن «الصوت الغامض الذي كان يوجه النصح لسقراط في اللحظات الحرجة»، والذي دعاه بعضهم بشيطان سقراط، لكن على العموم بدأ كتابنا بمرحلة الأديان، وفيه يتوقع المؤلف انقراض الديانات الطبيعية، أو التي نطلق عليها «غير سماوية» مع استمرار بعض الحركات الناتجة عنها مثل حركة «الفيمينيزم»، أي «الأنثوية» وحركة الوثنية أو السحر والشعوذة، لكني أشك في ذلك لأن البوذية تنتشر بقوة في أوروبا وأمريكا.
يحذرنا الكاتب من عملية إقصاء الحضارات الوثنية القديمة بحجة غموضها وهو يشجع الحوار بين الأديان لمعرفة الآخر الذي يمكن أن نكونه أو الآخر الذي عرفناه بالفعل، وفي حديثه عن علاقة الأديان الإبراهيمية بالوثنية القديمة يركز المؤلف على علاقة اليهودية بالأديان المصرية القديمة، ويقارن بين قصة التوراة عن موسى وقصة المؤرخ اليوناني هيكاتية دابدار؛ حيث ذكر الأخير أن الطاعون انتشر في مصر وكان تفسير كهنة الفراعنة وعلماؤه أن السبب هو وجود أجانب يمارسون شعائر وقرابين وتضحيات، وهنا اتخذ الملك الفرعون قراراً بطرد جميع الأجانب من أرض مصر، وكان هناك يونانيون ويهود، ورجع اليونانيون إلى بلاد الإغريق بينما رجع الشعب اليهودي بقيادة موسى إلى أورشليم، وقام بتأسيسها.
وبالطبع وطبقاً لقصة التوراة فإن موسى تأثر وتهذب بكل حكمة المصريين وقد بنى خيمة الاجتماع في الصحراء بعد خروجه من مصر على مثال المعابد الفرعونية، وأيضاً طبقاً للتوراة لم يدخل موسى أرض فلسطين، ولم يبن أورشليم، فلقد ثبت تاريخياً أن أورشليم بنيت على يد الملك داود بعد الخروج من مصر بأكثر من ستمائة عام. وقد قام اليبوسيون العرب ببناء أورشليم وهي القصة الأقرب للواقع، وهذا يتطابق مع القصة التي وردت في القرآن الكريم أيضاً. ويعرض الكاتب أيضاً لاجتهاد العالم النفسي سيجموند فرويد في أن موسى هو إخناتون، ويدحض المؤلف هذه القصة لكن من المفيد أن نتعرف على الأسماء المصرية ليوسف الصديق وموسى النبي؛ فقد كان يوسف الصديق يدعى سارابيس أي «بن سارة» (زوجة إبراهيم)، أما موسى فقد دعي أوزارسب أو ابن أوزوريس لأنه ولد في مصر.
***
أما عن مفهوم الدين فقد تحدث عن المسيحية بخلفية الحضارة اليهودية واليونانية وذكر أن المسيحية تتحدث عن النور الطبيعي، وهو نفس تعبير الإسلام (دين الفطرة) داخل الإنسان، وأن معنى كلمة دين Religion تعني الاختيار بعد الفهم والمقصود تبنى فكراً جديداً، وقد كان هذا المعنى موجوداً من قبل المسيحية للذين يمارسون طقوس عبادة الآلهة (الشعائر الدينية)، لكن هذه الأديان الوثنية كان لديها تعددية في العلاقات، فالشعائر الدينية والمعتقدات السياسية والنظريات الاقتصادية مختلطة ببعضها في مجموعة واحدة معقدة متشابكة في المجتمعات الوثنية. أما تعريف الدين كمنظومة فكرية ذات خصوصية، وهو ما يسمى بـ«اللاهوت النظامي» في المسيحية إنما هو فكر مسيحي يحتم الاختيار بين الدين والخارجين عليه، فمنظومة العقائد المسيحية تقف في مواجهة اليهودية من جانب والوثنية من الجانب الآخر، ثم جاء الإسلام وقام بنفس العمل «علم الكلام» إذ وضع أفكاراً منظمة تضع خطوطاً واضحة بينه وبين الأديان الأخرى ــ يهودية أو مسيحية أو وضعية أو وثنية. والمؤلف يتساءل ألم يكن من الأفضل أن نحتفظ لتاريخ الأديان لا بالمعنى النظامي الذي ينال استحسان المنظمات الدولية والسلطات العامة والإعلام الحديث لكن بالمعنى القديم جداً، ويقصد بهذا الأفكار العامة كما هي في الكتب المقدسة الموحى بها قبل وضعها في منظومة من تأليف علماء من البشر بقصد تبويب وتنظيم العقائد في مواجهة غير المؤمنين أو الذين يؤمنون بأديان أخرى، وهكذا يترك للإنسان العادي لكي يختار ما يشاء ويرفض ما يشاء بحسب فهمه للنص من منطلق خلفيته الثقافية والحضارية، وهنا كنا سنجد الكثير من المشتركات بين أتباع الأديان، بل أكثر جداً مما نظن أو نفكر مقارنة بما نجده اليوم في ظل اللاهوت النظامي وعلم الكلام.
* أستاذ مقارنة الأديان.
الشروق.