«فور ولادته، يبدأ الإنسان تلمّس مسالك وجوده وتحقيق ذاته وحضوره في الحياة من خلال المحيطين به»، هذا ما يقوله التشكيلي الأردني سهيل بقاعين وهو يتحدث عن بداية علاقته باللون، ذلك «الكائن» الذي وعى عليه وهو يراقب أمه تحيك الصوف وتحوّل اللفائف إلى أشكال فنية وهندسية غاية في الروعة والإتقان.
ويستذكر بقاعين -الذي أطلق من وحي عمله في الفن التشكيلي مبادرتين هما «المتحف المتنقل» و«تعليم الرسم للمكفوفين»- خطواته الأولى نحو الفن قائلا: «كنت أسأل أمي عندما أراها تقلّب صفحات مجلات الأزياء العالمية ومنها (البردة) لتتعلم شكلا جديدا أو خلطة ألوان لم يسبق لها أن جرّبتها: هل تقدرين على قراءة كل لغات العالم؟»، فكانت تكتفي بابتسامة رقيقة وهي ترى عينيه معلّقتَين بحركة يديها، وتواصل صنع أشكالها المفضّلة مستخدمةً أسياخ الحديد أو صنارة الصوف وغيرهما من أدوات الحياكة.
ويوغل بقاعين وهو يصف تجربته مع مدرسته اللونية الأولى التي تشكلت من خلال مراقبته لما تفعل أمه: «كنت أسألها عندما تأتي على ذكْر مكّوك الخياطة: هل سُمّي بذلك لأنه يشبه مكّوك الفضاء؟»، فكانت الأم تجيب الصغير بما يلائم خياله وفضاءه، قائلة إن مكوك الخياطة ومكوك الفضاء كليهما ينقلان الإنسان إلى فضاء اللون الواسع فيبدو الكون أكثر جمالا وإبداعا!.
محمَّلاً برؤى معلمته الأولى؛ أمه، خَطا سهيل نحو المدرسة، وفيها أظهر تميزا في الرسم والتشكيل، ويستذكر كيف أخذ أستاذه في الفن بيده نحو أفق جديد في التعامل مع الألوان: «علّمني أستاذي كايد عمرو كيف أتعامل مع ألوان الباستيل والألوان الزيتية، وترك في نفسي أثرا كبيرا، فتعلمت منه حب اللون وكيفية استخدامه للتعبير عن احترام الذات، وعن معاني المحبة والأخوة والصداقة التي ينبغي أن تعم عالم الإنسان». بدأ بقاعين يدرك مدى تعلّقه بالرسم وشغفه به بعد أن فاز بجائزة في مسابقة للأطفال نظمتها (اليونيسيف)، ثم التحق، و«بمحض الصدفة» كما يقول، للدراسة في الأكاديمية الملكية للطيران، وبعد حصوله على شهادة الدبلوم فيها، عمل في الخطوط الجوية اللبنانية، وهو ما أتاح له زيارة بلدان مختلفة، لتتشكل «تجربة فارقة» في حياته. إذ تعرّف خلال رحلاته على ألوان تختلف عن تلك عرفها في طفولته، وفي ذهنه كان ثمة معمل يخلط هذه الألوان بتلك، ويمزج أشكالا ألفَها مع أخرى يراها للمرة الأولى، ومن هذه التوليفة استطاع أن يحدد بصمته الخاصة، وطريقته في التعبير الفني.
في مرحلة لاحقة، اختار بقاعين أن يرسم على القماش، وهو الخيار الذي لا يعرف ما الذي قاده إليه، ويقول في ذلك: «شعرت في لحظةٍ أن مكّوك أمي صار جاهزا للانطلاق إلى عالم التشكيل البديع ذلك الذي كلما توغلت فيه أكثر شعرت كما لو أنني أشبه (أليس في بلاد العجائب)، أو كأنني بطل رحلة (مائة عام من العزلة)»، ويواصل حديثه: إنه «عالم وجدْتُني فيه أبحث عن ذاتي، عالم يمتزج فيه بعض جنون سلفادور دالي أو فان كوخ، مع روعة ماتيس، وصرخة مونك، وهروب جاكسون بوﻻك..».
ويكشف بقاعين أن حلمه في ترسيخ حب الفن في نفوس أبنائه، دفعه إلى تزيين جدران منزله باللوحات الفنية، وتعليمهم تقنيات الرسم ومزج الألوان، وكانت النتيجة إقامة معرض له ولابنه «عون» وابنته «راية».
تواصلت بعد ذلك معارض بقاعين الخاصة، من مثل «ظلال» و«تجليات اللون»، كما شارك في معارض جماعية، لكن ذلك لم يكن حلمه أو هدفه وفقًا لما قاله لوكالة الأنباء العمانية، مضيفا: «كان هناك هاجس قوي في داخلي متمرد على الواقع.. أردت أن أكون أكثر حرية». ويمضي بقاعين في حديثه عن الفن حدّ تأكيده أن اللوحة كانت نافذته على الحرية والشرفة التي يطل عبرها على طفولته، وأن الرسم يحرر الإنسان من داخله ويجعله يتغلب على همومه وأحزانه، وأن الفن هو «إعادة تشكيل الطبيعة والفراغ واللون».
فالرسام، كما يرى بقاعين، هو من يتمكن من الاشتغال على تنمية منطقة الخيال ولكن بوعي يحيط بكليات الكون؛ «وعي روحاني يتم التعبير عنه بطريقة غير مألوفة هي طريقة الرسام وبصمته الخاصة».
وحول مفردة الأنثى التي حضرت بقوة كثيمة في أعماله، يقول بقاعين إن ما يربطه بلوحته «علاقة كيميائية»، وهو يرى أنه عندما يبدأ الرسم يدخل إلى اللوحة وهي تدخل إلى جوانيته، مشيرا إلى أن هناك علاقة بين اللوحة والأنثى، فكلتاهما تقومان على خطوط منحنية وتضاريس تشكيلية، كما تتميزان بكونهما تتصفان بالخصب، والأمومة، والعاطفة.
وحول تكراره عددا محدودا من الألوان في الرسم، وتوظيفها وفق تقنيات متداخلة أو متجاورة، يوضح بقاعين أن هذه الألوان «تعبّر عن الحياة»، فالأحمر يشير إلى المواجهة والتمرد مثلما يعني الموت، فله وجهان متضادان (الحياة/ الموت)، أما الأصفر أو البرتقالي فهما لونان ضد التصحّر واليباس، بينما ينطوي الأزرق على الرغبة الإنسانية، وكأنما هو جسر تعبر عليه أمنياتنا، ولذا يركز بقاعين على منطقة التجريب في هذه الألوان «لاقتراح جماليات من شأنها أن تُطَمْئن أرواحنا القلقة».
البحث عن مفهوم «الحرية» قاد هذا الفنان إلى مغادرة العمل الوظيفي، وركوب «مكّوكه» مرة أخرى لينطلق في مشروع «المتحف المتنقل»؛ مستدركا: «الفرق أن رحلتي كانت على اﻷرض وليس في الفضاء الواسع».
أطلق بقاعين فكرة المتحف المتنقل في اليوم العالمي للمتاحف في 18 مايو 2009، وكانت مدينة السلط محطته الأولى، ثم امتدت التجربة لتشمل معظم المدن الأردنية، إذ قام المتحف بأكثر من 500 رحلة، تم فيها اصطحاب أعمال فنية أصيلة من المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة، والسفر بها ليشاهدها أبناء القرى والريف والبادية، تحقيقا لشعار «الفن للجميع»، بالإضافة إلى ورش عمل فنية ومحاضرات لمتخصصين وأكاديميين. ويقول بقاعين عن تجربته مع المتحف المتنقل، وعن رؤيته التي غذّى بها هذا المشروع ورسخ حضوره في المدن والقرى: «الجمال، اﻷلوان، الرسم، التجريد، اﻻنطباعية، السريالية، التكعيبية.. كلها مصطلحات مهمة جدا يجب أن نغرسها في عقول أطفالنا وفي قلوبهم، لتكون بمثابة المضادات الحيوية التي تحارب أمراض التخلف والجهل والتعصب والانغلاق والمحدودية في التفكير»، منطلقا في ذلك من إيمانه أن الفن ليس حكرا على أحد ولا ينبغي له أن يكون، لأنه «جزء أساسي من الحياة يُبرز أجمل وأعمق ما فيها».
ويؤكد بقاعين: «نعم، استطاع المتحف المتنقل أن يكافح الأمراض النفسية واﻻجتماعية، وذلك بنشره ألوان الطيف الزاهية في نفوس الأطفال أينما وُجدوا، وغرس بذرة الحب والخير والجمال التي ستنمو معهم وتصبح أكثر إشراقا كلما اشتدّ عودهم في الحياة».
ومن مشروع المتحف المتنقل الذي استفاد منه نحو 50 ألف طالب، انتقل بقاعين إلى تجربة تعليم الرسم للمكفوفين بالتعاون مع الأكاديمية الملَكية للمكفوفين، وهي التجربة التي يصفها هذا الفنان بـ«الفريدة»، مضيفا: «عشت مع المكفوفين، وحاولت أن ألوّن قلوبهم وعقولهم وبصيرتهم بألوان قوس قزح»، بهدف «تحويل الإعاقة إلى طاقة، وإيجاد حالة لونية تشكيلية جديدة أقوى من التجريدية واﻻنطباعية والسريالية»، وقد أثبتت هذه المدرسة حضورها وتأثيرها، واستطاع بقاعين أن ينظم لطلبته فيها معارض عدة، منها «ما وراء البصر»، و«قارئ اللون»، و«عبق اللون».
وتمكّن بقاعين من تعليم الطلبة والأخذ بيدهم لرسم جدارية زيّنت مرافق الأكاديمية ونشرت عبق الألوان فيها. وحول كيفية تعامل المكفوفين مع تقنيات اللون، يوضح بقاعين إنهم يرون الألوان وتناسق الأشكال من خلال حواسهم، حيث يمزجون الألوان وفقا للرائحة، فالأصفر لون الليمون، والأحمر لون الكرز، والبرتقالي لون البرتقال.. إلخ. «كلما شاهدتُ إبداع هؤلاء الطلبة شعرتُ بالرضا»، يقول بقاعين مضيفا أن هذه التجربة: «أيقظت لدى الأطفال أحلامهم الخاصة، وأبعدتهم عن الإحساس باليأس أو العجز وقادتهم إلى عالم جديد كلّه ألوان».
______
*جريدة عُمان