*أسعد عرابي
«تطور الحداثة في فن الكونغو من 1926 إلى 2015»، هذا هو العنوان المثير والأصيل للمعرض البانورامي الذي فاجأتنا به «مؤسسة كارتييه» العريقة في باريس. يمتد عرضه حتى منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) مع كاتالوغ بالغ العناية النصية والتوثيقية والطباعية في أربعمئة صفحة. وثق مع المعرض السياق التاريخي لأثمن كنز فني في أفريقيا، فنتعرف على خصوبته الشمولية بدهشة وإثارة لا تنسى، كون عمقه يتجاوز المفاهيم الخاطئة حول التفوق المطلق للفن الأوروبي المعاصر، لذا يطبع توجهه (وهو يجمع عبقريات أجيال من فنانين علموا أنفسهم بأنفسهم) معاداة للأكاديمية الرسميّة كرمز للاستعمار الثقافي.
من الواجب الاستدراك بأننا بدأنا نتعرف عليه سابقاً وبالتحديد من خلال المعرض الأسطوري «سحرة الأرض» الذي أشرف عليه الناقد المتنور جان مارتان عام 1987 بالدعم المحسوس للرئيس ميتران له في تلك المناسبة. أقيم في حينها في موقع رئيس للفن المعاصر وهو متحف الفن المعاصر لمركز بومبيدو.
من محاسن الصدف وعبر هذا المعرض الأسطورة أن نكتشف اسم تاجر وصاحب مجموعات خاصة بالفن الأفريقي وهو أندريه ماغنان، سُمعته وخبرته الطموحة كفيلتان بانتشار صيته، وطلب مارتان منه إغناء مشروع هذا المعرض بالمساهمة بنماذجه المعروفة، وكان من محاسن الصدف أيضاً أن سنة تاريخ المعرض بلغت أشواق ماغنان أن يسافر نهائياً إلى كينشاسا ويبدأ باكتشاف كنوز عبقريات مجهولة ومتفوقة على ما نملكه من فن أفريقي وهي كنوز تنتمي خاصة إلى بداية الفن الكونغولي منذ 1920، على مثال شيري سامبا الذي أصبح أكثر شهرة وانتشاراً في أوروبا في السنوات الأخيرة لدرجة أن مؤسسة كارتييه نفسها أقامت له معرضاً بانورامياً جامعاً في الموقع الراهن عام 2004 وهو أصبح يوقع: «صاحب السمو الرسام سامبا» هو الموسوم بالأشد تواضعاً وبأنه الأشد «هدوءاً وبركانية» ولكن هذا التوقيع يحمل احتقار هؤلاء الفنانين العصاميين للفكر الأكاديمي والحذلقة فيه والاستعمار الثقافي.
بدأ منذ بداية القرن ومع شهرة سامبا يشتهر ثلاثة كبار من الفنانين الشعبيين في الكونغو، وذلك قبل تأسيس أكاديمية فنون كينشاسا عام 1943.
استكملت وثائق المعرض الراهن هذه الإحاطة التاريخية، علماً أنه من المعروف أن بلجيكا بدأت استعمارها للكونغو منذ نهاية القرن الثامن عشر، ولكن ظهرت مع الربع الأول من القرن العشرين شخصيات مسؤولة شجعت الفنانين وأظهرت عبقريتهم وكانوا متنورين لدرجة إقامة المعارض المتنقلة بين المونوبولات الفنية الأوروبية ابتداء من باريس إلى بروكسيل ومن برلين وميونيخ إلى مدريد وروما قبل وصولهم نيويورك.
وصل هذا التشجيع أوجه عام 1950 مع تأسيس «أكاديمية فنون ليزابيتفيل» من قبل الرسام البلجيكي لوران مونانس.
مهدت شتى السبل لظهور عروض الأسماء الموهوبة المحلية في العالم أجمع، وبخاصة الفنان غامبا، وكانت ثمرة هذا السعي إقامة المعرض العالمي في بروكسل عام 1958 الذي عانق تحف هؤلاء بين عروضه الأوروبية. هو ما أكد أن مدرسة أو مجموعة باقة كينشاسا تتفوق على نظائرها المعاصرة الأوروبية من ناحية غريزة الحسية وشطح الهذيان والشمولية الكونية وصحراوية الحلم، على غرار اللوحات الورقية الذائعة الصيت (والمعروضة) لألبير وأنطوانيت لوباكي، ثم أعمال تجدلاتاندو. يبدأ المعرض بذخائر رواد ينتمون إلى العشرينات ثم أجيال من الفنانين المتميزين ورثوا هذه التقاليد وطوروا فيها، ولكنهم جميعهم لم يتعلموا في معهد فني أو مدرسة لحسن الحظ، اجتمع بعضهم بين عامي 1946 م و1954 في «محترف هنغار» فصاروا يعرفون اليوم باسمه، ولكنهم يعرضون كجماعة.
يقع تصويرهم بين التجريد والتشخيص وهو مسكون بسحر الوحوش أو الحيوانات الوادعة، بأنواع النباتات والأشخاص الذين تلبّسهم سحر الطبيعة في رقصهم وأقنعتهم وأرديتهم ومناخاتهم واكسسواراتهم المريبة.
يستمد الجميع إذاً على تعدد درجات شطحهم الحدسي تأويل بيئتهم بالاستمداد من عناصرها الحيوانية الجامدة من البيئة الجغرافية وعناصر الكون الأول وتواتر الليل والنهار والفصول الأربعة، وصوت الموج والمطر والرعد ومواسم البراكين والأضحيات وغيرها.
________
*المصدر: الحياة