حاتم الصكر *
وُصفت حكايات أيسوب دوما بالخرافات استنادا إلى محتواها؛ فقد كانت شخصياتها كلها من الحيوان والطير. واستدعى كلامها وأفعالها في القصص استغراب قارئيها فنعتوها بالخرافات. يروى أن ايسوب كان عبدا حبشيا ـ بدليل قرابة نطق اسمه من ايسوبيا كاسم أغريقي للحبشة ـ تملّكه سيد يوناني وأعتقه لفطنته ونباهته وفصاحته. نال ايسوب حريته إذن وكأن حكاياته أيضا نالت الثمن نفسه؛ فخرجت من أسوار قصر سيده لتذاع في أرجاء العالم بمختلف اللغات ومئات الطبعات.
لكن كتاب الخرافات صار مثل كليلة ودمنة ذا مستويين في القراءة: لطلب الحكمة عبر دلالات السرد الخرافي، ولطلب المتعة والفائدة للصغار والمتعلمين، ثم انحصر مستوى تلقيها حيث عدّتها المكتبات الحديثة حكايات مكتوبة للأطفال تحديدا، جاءت على ألسنة الطيور والحيوانات لكنها ذات مغزى تربوي.
غموض رهيب يحيط بالحكايات: وكأنه يفيض من عوالمها الغرائبية، كفوز السلحفاة على الأرنب في العدْو، واحتياج الأسد للفأر حين يؤسر، وزهد الثعلب بالعنب البعيد عن تناوله بحجة أنه حامض لا يصلح للأكل.. فتمثل ذلك الغموض بالشك في حقيقة كون مؤلف الحكايات هو إيسوب نفسه، وفي حقيقة وجوده أيضا وهويته ومصيره. ذلك قدَر الكتب المؤثرة والخالدة: لا أحد يعرف مؤلف ملحمة جلجامش ولا ألف ليلة وليلة. لكن إيسوب يستدعي دلالة شديدة الخطورة: تحرير العبد بخرافات ذات مقاصد يتغلب فيها الضعيف نمطيا على القوي. ربما ذلك كان مدعاة لنعتها بالخرافات أكثر من نطق شخصياتها الحيوانية وحوارها وأفعالها وحكمتها.
هل قصد إيسوب إذن تحريض العبيد على أسيادهم ونيلهم الحرية بتلك الخرافات؟ وهل كان وصفه بالمخرّف والكذاب والمؤلف المزعوم او المفترض هي بعض وجهات نظر السادة فيه، بعد أن قامت حكاياته بالتحريض على الخيال وطلب الحرية في مجتمع عبودي كالذي عاش فيه ايسوب في القرن السادس قبل الميلاد؟
تصور الأخبار ايسوب قبيح المنظر بأنف ورأس غريبين وهيئة مزرية. وهكذا تخيله الرسام فيلاسكوز حوالي عام 1460 في رسم شخصي واقفا بحزن معوج الجسد متأبطا كتابا، بينما قدمه رسم آخر بهيئة أحدب ومن حوله حيوانات حكاياته. لقد تماهى الشخص ومدونته التي ألفها شفهيا وسارت لتخلد. أحد الرسوم يقدمه عاشقا شابا في مشهد رومانسي مستعيدا شبابه الذي سلبه الرق طويلا أو فتوة حكاياته التي لم تهرم. وكما كانت أحداث الخرافات بلا زمن فإنها لم ترتهن بعصر. هذا أحد مبررات استطرادتنا. ففي إحدى الحكايات التي تستحق وصفها بالخرافة يطلب الثعلب من الديك أن ينزل عن الشجرة ويسير معه لأن أسرتيهما تصالحتا وقرر أفرادهما العيش بسلام وكذلك الحيوانات كلها. يعلم الديك بكذب الثعلب فيلقنه درسا شبيها: يخبره أنه يرى من موقعه على الشجرة كلبين قادمين لابد أنهما وافقا على السلام المزعوم، لكن الثعلب يفر مدعيا انهما ربما لم يسمعا بالاتفاق السلمي! الخادع ينخدع بسهولة تقول أمثولة الخرافة، وتتمدد عابرة زمنها لتراهن على ما يجري في عصرنا المكتظ بالخرافة!
– الاتحاد