ورحل الإسكندر الأكبر ..!



*د . يسري عبد الغني عبد الله


خاص ( ثقافات )
هل مات الإسكندر الأكبر ؟ ، عبارة جرى بها لسان أحد الأثينيين : ” مستحيل ! إن العالم كله ستخبث رائحته ! ” .
عندما مات الإسكندر الأكبر سنة 323 ق .م ، كانت إمبراطوريته تمتد من بلاد اليونان إلى بلاد الهند ، ومن بلاد القوقاز إلى أثيوبيا الإفريقية ، ولم يك ثمة رجل أوتى القوة والبأس الكافيين ليحكم كل هذه الأقطار الفسيحة المترامية ، وعلى هذا ففي خلال الخمسين سنة التي مرت على وفاته ، كانت الإمبراطورية قد تمزقت أوصالها ، بسبب الحروب الطاحنة التي نشأت بين خلفائه ـ قادة الإسكندر وذرياتهم ـ وكان كل من أولئك يريد أن يكون الخليفة الأوحد للإسكندر أو إسكندر آخر ، وهذا بالطبع من رابع المستحيلات !! .
غزاة الشمال :
ولكن عندما غزت قبائل الغال الضارية المنحدرة من الشمال ، بلاد اليونان وأسيا الصغرى ، رأى اثنان من هؤلاء الخلفاء : أنتيجونوس جوناتاس ، وأنتيوخوس ، أنه ينبغي عليهما التصدي للتهديد الأجنبي ومنازلة رجاله بدلاً من حربهما بعضهما بعضا .
وفي سنة 270 ق . م هزمت قبائل الغال ، واتفق أنتيوخوس وأنتيجونوس على أن يسود ربوعهما السلام ، ووطد أنتيوخوس دعائم حكمه في المملكة السلوقية ، وهي أحد نتائج انتصارات الإسكندر الأكبر في الشرق ، والتي تضم معظم القارة الأسيوية ممتدة إلى هندكوش ، وسميت هكذا باسم أبيه سلوقس أحد قادة جيوش الإسكندر ، كما وطد أنتيجونوس دعائم حكمه في مقدونيا وما يجاورها من بلاد ، وأجزاء متعددة من اليونان ، وهذه هي المملكة الأنتيوجونية ، واستمر البطالمة في حكم مصر وليبيا ، كما كانوا عند وفاة الإسكندر الأكبر المقدوني .
كانت هذه مجموعة الممالك الهيلنستية ، وقد استمر العصر الهيلنستي من سنة 323 ق . م حتى أصبحت هذه الدول أجزاء من الإمبراطورية الرومانية في القرن الثاني ق . م ، ولقد سميت هيلنستية لأن الهيلينية أو الثقافة اليونانية واللغة اليونانية كانتا منتشرتين في ذلك الوقت في كل الأرجاء ، وهذه الدول وإن كانت غالبًا ما تقاتل إحداها الأخرى ، فقد كانت جميعها تشترك في نفس اللغة والفنون والثقافة .

الممالك اليونانية الهيلنستية : 
أما بالنسبة للممالك اليونانية أو الهيلنستية الثلاث ، ففي المملكة السلوقية ، حيث كانت اليونانية هي لغتها الرسمية ، أقبل الأهالي على تعلم هذه اللغة ، واتخذوا لهم أسماء يونانية ، واقتبسوا كذلك العادات والتقاليد التي كان يتبعها اليونانيون ، وكان الملوك السلوقيون تعبدهم شعوبهم كأنهم آلهة ، وكانت كلمتهم هي القانون الحاكم ، وبعد موت أنتيوخوس الرابع في سنة 164 ق . م ، تسلل الضعف إلى الأسرة الملكية الحاكمة نتيجة للخلافات والصراعات الداخلية التي كانت تدور بالطبع حول الخلافة على الحكم ، وكذلك الهجوم الذي ما فتئ يشنه أهل بارثيا ، حتى أن روما استطاعت بمضي الوقت أن تضم سوريا و سيليسيا (65 ـ 63 ق . م ) ، ومن ثم فلم يتوافر للمملكة السلوقية مقومات البناء والاستمرار .

وتختلف المملكة الأنتيجونية في الاتساع نظرًا لقوة حلفين كانا يسانداها ويدعماها ، إحداهما حلف أخايا ، في البلوبونيز ، والثاني في قلب بلاد اليونان نفسها ، وبعد سنة 215 ق . م ، تسرب الضعف شيئًا فشيئًا إلى الأسرة المالكة ، نتيجة لسلسلة الحروب التي كانت تشنها على روما التي كان سلطانها إذ ذاك يتسع ويتمدد ، وقوتها تزداد على مر الأيام .
وقد استمر حكم البطالمة حتى عهد الملكة كليوباترا ، وكانت مصر في تلك الآونة بمثابة ضيعة أو مزرعة كبيرة ضخمة يديرونها لمصلحتهم الخاصة ، إذ كان الملك يملك أو يحتكر كل الأراضي الزراعية المصرية ، كما كانت الضرائب مرتفعة لا يقدر على دفعها معظم الناس ، ولكن على الرغم من الموارد الطبيعية التي تتمتع بها مصر ، فقد انهارت تدريجيًا دولة البطالمة ، كما حدث بالنسبة للمملكة السلوقية في الشرق .

بين الأبهة والعزلة : 
لقد كان هذا العهد عهد ملوك مطلقي السلطة ، يفعلون ما يريدون في أي وقت أو مكان يحلو لهم ، ويميل أمثال هؤلاء الملوك إلى أن يكون لهم بلاط فخم ضخم في محيط زاخر بألوان من الترف والمتع الحسية المبالغ فيها ، وكانت المدن في عهد الدولة اليونانية أكبر حجمًا ، بل إن بعضها يكون في حجم دولة ، من الدول التي كانت على خريطة العالم في تلك الآونة .
مدن هذه الفترة في عهد الدولة اليونانية ، كانت من نواح كثيرة أعظم وأبدع من أثينا الكلاسيكية التي نعرفها ، ولكن دولة المدينة القديمة قد اندثرت ، ولو أنه كانت لا تزال ثمة مدن تزعم أنها حرة أو مستقلة ، وأنها ديمقراطية ، إلا أنها في واقع الأمر كانت تخضع جملة وتفصيلاً لسيطرة ملوكها .
ولأن المدن أضحت الآن غاية في الكبر والفخامة ، ولأن نظام دولة المدينة القديم حيث عاش الناس سويًا في مجتمع صغير متحد قد تلاشى ، من أجل هذا كان المواطنون العاديون إذ ذاك يشعرون بأنهم أشد عزلة مما كانوا عليه من قبل .
وبدأت الأديان والفلسفات تؤكد للناس أهمية الفرد ، وقد قررت الفلسفة الرواقية ، التي كانت تدرس في أثينا العاصمة اليونانية على يد الفيلسوف زينون الرواقي في القرن الثالث قبل الميلاد ، أن كل الناس سواء ، ولا فرق في ذلك بين الأغنياء والفقراء ، بين الأحرار والمستعبدين ، الناس كلهم أخوة يسودهم قانون مقدس واحد .

وقد تكون أشد الحقائق المميزة لأهمية العالم اليوناني في تلك الفترة ، هي اللغة المشتركة التي تتكلمها الفئات المتعلمة من الشعب المعروفة بالكوين ، وهي صورة معدلة للغة اليونانية الرفيعة ، وقد أسهمت هذه اللغة في ربط الممالك المتفرقة بعضها ببعض ، وأخيرًا أصبحت اللغة التي انتشرت بها تعاليم السيد / المسيح (عليه السلام) ، في داخل الإمبراطورية الرومانية .

الإسكندرية منارة العلوم والمعارف :
وغني عن البيان هنا أن مدينة الإسكندرية كانت مركزًا مرموقًا للعلوم والفنون والمعارف ، وكان البطالمة نصيري الفنون والآداب ، وقد أنشئوا المكتبة المشهورة والمتحف الذي كان يتخذ كمركز أو معهد للدراسات والبحوث ، وكان طلاب العلم والمتأدبون يشجعون ويحفزون على دراسة كبار المؤلفين الكلاسيكيين ، وعلى أن ينسخوا صورًا لمصنفاتهم ، حتى يتسنى لهم الاطلاع عليها ودرسها في أي وقت سواء بمفردهم أو مع أساتذتهم ، كما كان طلاب العلم يشجعون على دراسة علم اللغة والأساليب اللغوية والأدبية ، ولعل ذلك كان أحد الأسباب الأساسية لازدهار النقد الأدبي في تلك المرحلة .
ولكن تاريخ الأدب يقول لنا : إن أدب العهد اليوناني كانت تعوزه القوة التي امتاز بها الأدب في العصور القديمة ، حتى الشعر كان في مستوى مدرسي عال وصعب لا يصل إلى عامة الناس ، أو حتى إلى محبيه وعشاقه .
وبالنسبة للعلماء السكندريين والمتخصصين في العلوم الرياضية توصلوا إلى استكشافات جديدة مهمة ، نذكر منها على سبيل المثال : إراتوسثنيس ، الذي قدر حجم الكرة الأرضية ، وإقليدس ، وأرشميدس … وغيرهم .. وغيرهم .

الفن الهيلنستي بين الواقعية والطبيعية : 
وبالنسبة للفن فهناك عدة تيارات في الفن اليوناني أو الهيلنستي ، ولكننا نجد على العموم قدرًا من الواقعية والطبيعية أكبر من النحت في العصر الكلاسيكي ، وقد تعلم الفنانون اليونانيون أن يعبروا بوضوح عن الشخصية ، وطوروا كثيرًا في رسم الصور أو البورتريهات ، وفي الإفريز من مذبح زيوس ، في برجامون ، حيث تظهر المعركة حامية الوطيس بين الآلهة والعمالقة ، تبدو الوجوه والأجسام في حال من التوتر يصاحبها جهد درامي ، تجعلنا ننبهر بها لما تحويه من إثارة وواقعية ، ولكن كما يقول النقاد ومؤرخو الفن : يعوزها الجلال الكلاسيكي ، وكان ثمة ميل في الفن كما كان في الأدب ، لنقل أو محاكاة صور من المصنفات القديمة ، وفي القرن الأول قبل الميلاد ازداد هذا الميل ، وتلاشى إلى حد كبير الإلهام الذي كان يمتاز به الفن اليوناني الهيلنستي ، وقد ناقشنا هذه الجزئية في كتابنا المعنون بـ : (التواصل الأدبي بين الشعوب) . 
وإذا تأملت الكتب التي تحدثت عن هذه المرحلة سترى خريطة أو خرائط للممالك اليونانية التي تكونت بعد موت الإسكندر المقدوني ، وتجد العديد من صور الجرات الزجاجية الزرقاء الجميلة ، والتي تعود إلى سنة 250 ق . م ، حيث كان الصناع اليونانيون يبدعون هذا النوع من العمل الحرفي المتميز ، ونرى تماثيل أو وجوه عديدة مثل رأس أرتيميس ، ورأس أفروديت ميلوس (فينوس ميلو) ، ورأس إلهة الصيد ، وأجزاء من العديد من الأنصاب التذكارية الجنائزية ، وكذلك صور لوجوه نساء ورجال عاشوا في هذه الفترة ، ويتضح فيها كيف طور الفنانون اليونانيون فن رسم الصورة الشخصية بالألوان ، ونرى صورة لإعادة بناء جزء من الإسكندرية القديمة ، المدينة الكبيرة للبطالمة في العصر الهيلنستي ،سنة 200 ق. م ، يبدو أنه تهدم لسبب أو لأخر ، كما نرى صورة لإعادة بناء جزء من المذبح الكبير لزيوس في برجامون ، حوالي سنة 180 ق . م ، وهو مثير وواقعي كما ذكرنا ، وأخيرًا نرى صورة لتمثال يقال أنه لساقي ، فنلاحظ أن النحت أصبح أقل مثالية ، مركزًا على إجلاء الطبيعة المدروسة بعيدًا عن التلقائية التي عاهدناها قبل ذلك . 

_______
*باحث في التراث الثقافي      

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *