*رشيد جرموني
أولا: في الطرح الإشكالي: العلاقات الجنسية في المجتمعات العربية بالأرقام
يعرف العالم العربي عدة تحولات في نسقه القيمي، حيث إنه بحكم العولمة وموجات التحديث المفكر فيه والتحديث العنيف والمفاجئ والقوي والمتسارع والقسري، مما تولدت عنه العديد من المظاهر والتحولات، وعلى رأسها المسألة الجنسية بكل ما تعنيه من حمولات وتداعيات وانعكاسات، وحتى نتمكن من ملامسة جزء من حجم الظاهرة، نتوقف عند بعض التقارير والدراسات البحثية التي حاولت أن ترصد الظاهرة.
فمثلا، فإن الدراسة، التي صدرت عن مركز “فارس للدراسات والسياسات العمومية”، تشير إلى أن الشباب المتراوحة أعمارهم ما بين (15-29)، في المنطقة العربية تعرف ارتفاعا في نسب المصابين بداء فقدان المناعة(الإيدز)، حيث تحدث عن رقم (460 ألف حالة حسب إحصائيات سنة 2010)، وأن الشباب العربي يتعرض لتعاطي المخدرات في سن مبكرة”.
أما في المغرب، فقد توصلت دراسة أنجزتها مجلة “ليكونوميست” المغربية، في سنة 2011، إلى أن 55 في المائة من الشباب لهم علاقة عاطفية، و32 بالمائة ليست لهم علاقات عاطفية، 10 في المائة مرتبطون إما عن طريقة خطوبة أو زواج. 1 في المائة من الشباب يرجع السبب في عزوفه عن إقامة علاقة عاطفية إلى الخوف من الأسرة، بينما لا يرى العدد الكبير من الشباب أي حرج أو خوف من أسرهم في ما يخص إقامة علاقة عاطفية.56 ℅ من الشباب القروي تجمعهم علاقات بالجنس الآخر، بشكل يفوق الشباب الحضري، إذ لا تتعدى النسبة 54 في المائة، و89 في المائة منهم يقرون أنهم مارسوا أول علاقة جنسية ما بين 12 و19 سنة. لكن أقل من 1 بالمائة من أجاب بأنه يقيم ما يسمى ب “كونكيبناج، concubinage. (وجبت الإشارة إلى أن حجم الظاهرة كبير ولا يمكن الاستسلام لمثل هذه التقارير، لأننا نعرف طبيعة الإنسان العربي والمغربي أنها لا تعبر عن حقيقة ما تفعل)، أو حتى ما أصبح يسمى بـ “جيكولو” (كناية عن شبقية النساء اللواتي يبحثن عن لذة جنسية من طرف شباب في مقتبل العمر مقابل تعويض مالي).
ومن جهة أخرى، كشفت دراسة علمية لسنة 2008 أعدتها وزارة الصحة في إطار البرنامج الوطني لمناهضة السيدا، عن المعارف والمواقف والسلوكيات الجنسية عند الشباب المغربي من خلال عينة 2000 شاب، أن 40℅ من الشباب المغربي يبحثون عن علاقات جنسية بعد استعمالهم للمخدرات والخمور، وكشفت معطيات الدراسة أن فئة الشباب هم الأكثر عرضة لمرض السيدا، حيث إن 68℅ من المصابين هم شباب ما بين 15 و39 سنة، 3℅ منهم تقل أعمارهم عن 15 سنة، وأن 39℅ منهم من النساء.
وأفادت نفس الدراسة أن 32℅ من الشباب المستجوب سبق أن كانت لهم علاقات جنسية سابقة، فيما أكد 65℅ أن لهم علاقات جنسية مع عدة أشخاص، وأن 57℅ من الشباب يرتادون دور الدعارة بعد استعمالهم للمخدرات أو الكحول و21℅ يستعملون العازل الطبي أثناء العلاقات الجنسية، وهم تحت تأثير الخمر أو المخدرات.
إذن يتبين من خلال الأبحاث والدراسات السابقة – والتي تبقى عاجزة عن كشف الخبايا الحقيقة للظاهرة – أننا أمام ظاهرة جديدة اسمها الحرية الجنسية، ولعل الدليل على ذلك، هو وجود مؤشرات “مقلقة” حول انتشار العمل الجنسي” بالعالم العربي وبالمغرب تحديدا، – فرغم أن الأرقام والمعطيات، والتي تبقى دائما تقريبية ونسبية وفي حاجة إلى إعمال الحاسة النقدية تجاهها -، لكنها تؤكد هذا المنحى التصاعدي للظاهرة. في هذا السياق، نقرأ مثلا نتائج كانت قد توصلت “المنظمة الإفريقية لمكافحة الإيدز في المغرب حول “العمل الجنسي”، وقد شمل البحث 500 امرأة تعمل في هذا الميدان، إلى أن 31,5% من العينة أميات، و21% لهن مستوى جامعي، وأن 60% سبق لهن أن مارسن الجنس في سن مبكرة، و40% مطلقات، و4% متزوجات ويمارسن الجنس للحصول على المال ولغياب الزوج. وفي دراسة أخرى على عينة من مدينة تطوان، تبين للباحث السوسيولوجي “أنطونيو مارتن” أن 22% من العاملات في الدعارة هن من الشابات القاصرات وأن 16% منهن عذراوات، وهن طالبات وتلميذات لم يفقدن بكاراتهن بعد، ويمارسن الجنس بطرق شاذة مقابل مبالغ مالية تتراوح ما بين 100 و200 درهم (تقريبا ما بين 10 و20 دولار أمريكي).
ولاشك أن هذه النتائج والمعطيات – والتي نؤكد مرة أخرى أنها تبقى نسبية – الخاصة بارتفاع تعاطي فئة الشباب “للاستهلاك الجنسي”، تبين بما لا يدع مجالا للشك، أننا أمام تحول في الممارسات والسلوكيات والاتجاهات القيمية عند الشباب، ولكل ذلك انعكاسات وآثار على البناء المجتمعي وعلى الأبعاد العلائقية لكل مكونات المجتمع، ومن بينها بطبيعة الحال مؤسسة الأسرة، ونظرا لأن الحيز لا يسمح بتجلية كل تلك الآثار والانعكاسات التي تخلفها ظاهرة التعاطي الجنسي عند الشباب، فإننا سنتوقف عند معطى مهم، وهو المتعلق بارتفاع ظاهرة الأمهات العازبات، حيث يتبين من بعض الإحصائيات المتوفرة، رغم قلتها، أنه في سنة 2010، قامت جمعية “إنصاف” بدراسة وطنية حول الأمهات العازبات، وقد توصلت إلى أن هناك 27199 أما عازبة، وضعن 45424 طفلا في سنة 2009، 21℅منهن، لديهن ما بين 3 و6 أطفال، وأنه في كل يوم، تضع 83 أما عازبة مولودا خارج مؤسسة الزواج (حسب بعض الدراسات).
ولعل القراءة الموضوعية لهذه النتائج لا تتوقف بنا فقط عند الأم العازبة وكفى، بل إن الأمر في اعتقادنا يمس الأجيال المقبلة، وهم الأطفال الذين سيعيشون وضعا قلقا ومضطربا في جميع الأبعاد، وقد تتطور الظاهرة إلى معضلات اجتماعية كانتشار الإجرام والاغتصاب وما إلى ذلك (دون الادعاء بنوع من الحتمية العلموية).
من جهة أخرى، تنتصب إشكالية أخرى، تعتبر من بين الانعكاسات المباشرة لارتفاع الطلب الجنسي في العالم العربي والمغرب، هي المثلية أو ما يطلق عليه في الحس المشترك “الشذوذ الجنسي”، والتي تعتبر من بين القضايا التي بدأت تتخذ أبعادا اجتماعية وسياسية جد حادة، فإذا كان الحديث عن الظاهرة كامنا ولا يتعرض له في العلن، فإن الجديد اليوم هو التعبير العلني من طرف مجموعة من الفاعلين، والذين يمارسون هذا الفعل، بشتى الوسائل خصوصا الإعلامية والإلكترونية، وقد تطور الأمر للبداية بالمطالبة بالحق القانوني في ممارسة “الحرية الجنسية” وبروز خلية جمعوية تسمى “كيف كيف”، وهي الجمعية التي تطالب برفع كل التحفظات التي تضعها الدولة –من خلال القوانين الجنائية – التي تجرم العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج -، أو من خلال الدعوة إلى تغيير نظرة المجتمع لهذه الممارسات، والعمل على إيجاد القبول الاجتماعي لها، خصوصا عبر أهم وسيط، وهو الإعلام. من الناحية الرقمية لا توجد معطيات دقيقة، فرئيس الجمعية “كيف كيف” صرح سنة 2004، بأن 10℅(عدد سكان المغرب ربما يصل 36 إلى مليون) من المغاربة “مثليون”، وبأن أعدادهم في تزايد؛ إلا أن هذا الرقم يعتبر من طرف البعض جد مبالغ فيه، ويتم الحديث عن 1000 مثلي، وبغض النظر عن الكم العددي، فإن ما يثير في المسألة هو محاولة تدويل المسألة. أما من الناحية المجتمعية، فإن غالبية المجتمع المغربي تنظر للمثليين بنظرة فيها استهجان ورفض، والاطلاع على بعض الدراسات والأبحاث يبين هذا المعطى. لكن ذلك لا يجعلنا نغطي الشمس بالغربال كما يقال، فالواقع أعمق من أن تحيط به دراسة أو حتى دراسات محدودة في الزمان والمكان والمنهج. ولعل بروز بعض السلوكيات الجنسية من مثل السحاق وسط الفتيات والنساء، لدليل على ما ندعيه، ويبقى المجال مفتوحا للمستقبل لدراسات تتسلح بمنهجيات مرنة تستكشف هذا المعطى.
وارتباطا بنفس الإشكاليات، فإن هناك “معضلة” تشكل في نظرنا تهديدا حقيقيا للاستقرار الاجتماعي والنفسي والصحي للمجتمع، وهي المتعلقة بتفشي داء فقدان المناعة “السيدا”، حيث تشير المعطيات التي تنشرها، إما الجهات الرسمية أو بعض الجمعيات العاملة في الميدان، ومنها “جمعية محاربة السيدا بالمغرب”، إلى أنه يوجد بالمغرب ما بين 23 و25 ألف مصاب بالفيروس، وأن 19℅ من الحالات المسجلة هي ضمن الشواذ جنسيا، وتصل إلى 64,1℅ بالنسبة إلى الأشخاص الذين يتعاطون المخدرات، وترتفع إلى 70,6℅ في صفوف النساء اللواتي يمارسن العمل الجنسي. وقد أشارت العديد من التقارير، إلى أن الخريطة الجغرافية لتوزيع حالات الإصابة بالفيروس، تختلف من مدينة إلى أخرى، وتمثل مدينة (أكادير، مدينة بجنوب المغرب) النسبة المرتفعة بـ 6,70℅، ولا ندري هل هذا الارتفاع مرتبط بالموقع السياحي للمدينة أم بعوامل أخرى؟
نخلص مما سبق عرضه، أن الشباب بحكم التحولات الديمغرافية، كارتفاع نسبة الشباب، والسوسيواقتصادية، كالبطالة، والسوسيوثقافية، كتمدد العمر الدراسي مقارنة مع السابق، وصعوبة وجود عمل، وينضاف إلى ذلك، العوامل المتعددة التي تعمل على تغذية واستسهال الممارسات الجنسية، وتغير نظرة المجتمع لهذه الممارسات، كل ذلك وغيره، مما لا يسمح المجال بالتفصيل فيه، يدفع أغلب الفئات للوقوع في علاقات جنسية ما قبل الزواج، وبشكل خاص الفئة الشابة. وهذا وإن لم يظهر بتلك القوة التي ربما نشاهدها في الواقع، نظرا لصعوبة استطلاع آراء المبحوثين، بشكل صريح في قضايا حساسة؛ لأنه كما هو معلوم في البحوث الميدانية، نجد المستجوبين يعبرون عما يسمى بـ “المرغوبية الاجتماعية”، أي ما يتماهى مع قيم المجتمع وليس مع حقيقة ما يقع. لكن ذلك لا يجب أن يخفي علينا واقعا يتسم بكثير من الميل للتحرر الجنسي والانفتاح على المواقع الإباحية، فحسب موقع “أليسكا” الذي يسجل المواقع التي يتم تفحصها في المغرب، برسم سنة2010، سجل نسبة (10%) من نسبة ولوج المغاربة للمواقع الإباحية، وهي نسبة مرتفعة مقارنة مع المواقع الترفيهية والاستهلاكية والثقافية والعلمية. ولعل هذا المؤشر يمكننا من فهم التحول القيمي، الموجه لسلوكيات وأخلاقيات الشباب، ودخول الوسائط الافتراضية في تغذية نوع من السلوكيات “الشاذة”، والتي يكون لها انعكاسات على استقرار الحياة العاطفية للشباب.
وكما شرح ذلك الباحث “الديالمي” “أن رقعة النشاط الجنسي قبل الزواج توسعت، إما تحت ضغط قوة الرغبة الجنسية عند الشباب وإما باسم الحب أو تحت ضغط إيديولوجيا الاستهلاك الجنسي باسم الصحة النفسية أو باسم التحرر. في هذا الإطار، يتم تسجيل محاولات “توفيق” بين الرغبة والتحريم من خلال ممارسات سطحية من دون افتضاض، أو من خلال ممارسات جنسية بديلة”.
ثانيا: محاولة تفسيرية للمسألة الجنسية بالمنطقة العربية
لا شك أن الفقرات السابقة في هذه المساهمة، بينت إلى أي حد يمكننا الحديث عن ظاهرة ارتفاع الممارسات الجنسية عند الشباب، ولعل تلك الظاهرة أو الظواهر المصاحبة لها – والتي حاولنا أن نلامسها قد المستطاع – تبين أننا أصبحنا نعيش على إيقاع تحولات عميقة وعامة وشاملة في مجال القيم، والتي تجد عنوانها العريض في تفشي المسألة الجنسية بكل أبعادها ودلالاتها وانعكاساتها.
وعندما ينبرى الباحثون في العديد من الحقول المعرفية، لمحاولة تقديم تفسير معقول لما يقع، نجد أن هناك مقاربتين – على الأقل – مقاربة تمتح من الخلفية الماركسية، والتي تعتبر أن البنيات التحتية تشرط السلوك الإنساني، أو كما فسر ذلك “كارل ماركس” قائلا: “، “ليس الوعي هو الذي يحدد الحياة الاجتماعية، بل إن الحياة الاجتماعية هي التي تحدد الوعي”. وهذا يعني أن بروز هذه السلوكيات الجنسية أو غيرها، إنما يرتبط بسياقات سوسيواقتصادية هي التي تحدده، كارتفاع البطالة، وتمدد العمر المدرسي، والهشاشة الاجتماعية وما إلى ذلك من محددات اقتصادية. بالمقابل، هناك مقاربة أخرى قيمية تمتح من الخلفية السوسيوثقافية، والتي تربط بروز مختلف التحولات إلى وجود ترسبات فكرية وثقافية، ومن ذلك ما تمخضت عنه موجة ما بعد الحداثة، والتي يمكن شرحها كالتالي:
فعندما نتفحص الخلفيات الحاكمة لموجة ما بعد الحداثة، نجدها تتأسس على ثلاثة مفاهيم مركزية: مبدأ التشكيك، ونعني بها التشكيك في كل القيم السابقة، والمرجعيات الدينية أو الثقافية، ووضعها موضع نقد ونقض، (وفي هذا السياق، يمكن أن نفهم التوجهات الجديدة/ القديمة التي تعلن عن تنصلها في كل القيم الدينية ومن الميتافزيقا). أما المبدأ الثاني، فهو رفض كل الأنساق المستقرة والمحافظة، والأخطر من كل ذلك تحطيم كل المرجعيات التي تحكم قيم الناس، سواء كانت مرجعية دينية أو ثقافية، أو حتى قانونية. ولهذا اعتبر الباحثان الألمانيان “لوكمان، وبيبرغر 1966[1]” أن سبب الأزمات التي تقع فيها المجتمعات، يعود إلى ضياع المرجعيات. ولعل هذا المبدأ الثاني، يذكرنا بالتيار الفوضوي الذي دعا له المنظر الألماني “ماكس ستيرنر”، عندما اعتبر أن على الأفراد أن ينتفضوا ضد المجتمع وقيمه وثقافته؛ لأنها تحد من حرياتهم.
في حين يشكل المبدأ المركزي الثالث، في هذه القيم التي تدعو إليها موجة ما بعد الحداثة، الاعتراف، ويقصدون به الدعوة إلى “الحرية والتعددية غير المتناهية، ولذلك يؤكد هذا المبدأ على تقبل كل الأذواق الفنية، سواء كانت “وضيعة” أو رفيعة أو “سوقية”، ويهتم أساسا هذا الخطاب، بكل ما هو هامشي ومحظور ومقصي” (خالد ميار الإدريسي، 2011). وقد يتهمنا البعض بأننا نحاول أن نختلق إشكالات لا أصل لها في البيئة العربية، وربما تستند هذه الحجة، بكون العرب لم يدخلوا بعد مرحلة الحداثة، فما بالك تتحدث عن موجة ما بعد الحداثة؟ كرد على هذه الحجة، أقول أن مسألة الدخول إلى الحداثة أو إلى ما بعد الحداثة، ليست باختيارنا وليست مسألة مرتبطة بمراحل معينة ينتظر أن يقطعها مجتمع معين ليصل إلى تلك المرحلة، والمسألة، ثانيا ليست خطية ونمطية، بل إن موجة التحولات وسرعتها لا تعرف التوقف، وبالتالي فهي موجات عالمية وكونية، تؤثر وتتأثر بمجموعة من العوامل والإشراطات. وبالتالي فنحن في المنطقة العربية، رغم أننا لا زلنا نحافظ على مجموعة من القيم التقليدية/ الثقافية المحافظة، فإننا بالمقابل نتعرض صباح مساء لموجات من القيم الحداثية وما بعد الحداثية التي قد لا نأخذها في جوهرها وفي منظورها الكلي، لكنها بالتأكيد تزحف على نسيجنا المجتمعي، مولدة لتوجهات وقيم وممارسات وسلوكيات ورؤى للعالم، مغايرة أو متعايشة أو متناقضة مع قيم المجتمع الأصلي، بل إن هذه القيم الجديدة، اخترقت حتى تلك المجتمعات، التي كنا نعتقد أنها عصية على التغيير (نموذج دول الخليج العربي). ولذلك عبر المفكر المغربي “محمد سبيلا، 2010″ عن توصيف ذكي لهذه الازدواجية، عندما أكد أن عمليات التحول القيمي، تتميز بدينامية التقليد والحداثة، فلا القيم التقليدية تموت كلية، ولا القيم الحداثية تحل محلها، بل إنهما يتمازجان بشكل فيه من التداخل والترابط والقطائع أحيانا الشيء الكثير”.
تساوق مع هذه التحولات، تصاعد موجات الحرية، وانهيار مجموعة من السلط، سواء الدينية أو الاجتماعية أو حتى السياسية، في إطار ما يعرف بتحول السلطة، وبروز ما سمي بالفرد/ الذات. هذه الذات، التي تعلي من قيمة الحرية ومن قيمة الأنا المتكلمة بدل “نا” الدالة على الجماعة، فقد وقع ما يشبه تفكك النسيج الاجتماعي، بين المجتمع ومؤسساته وبين الأفراد.
من خلال كل ما سبق من عوامل، سواء منها ما هو ذاتي موضوعي وما هو خارجي كوني، يمكن أن نفهم سر هذه التحولات القيمية، والتي قد لا نفهم تفاصيلها بسبب هيمنة الخطاب الأيديولوجي، سواء منه الأخلاقوي أو التماهي مع القيم الكونية، ولهذا فنحن بحاجة إلى مقاربة علمية تمتح من حقل السوسيولوجيا لتفك السحر عن الظاهرة.
إن قضية تبادل القبل في الشارع العام، أو ارتفاع الممارسات الجنسية وبروز العمل الجنسي والمثلية والأمهات العازبات والسيدا… لم تكن حدثا فريدا من نوعه، فهناك العديد من المشاهد التي تعج بها مؤسساتنا ومنتدياتنا وأزقتنا وحدائقنا ومحلاتنا…، مما لا تخلو من لحظات سرقة لقبلة منتزعة هناك وهناك. لكن الجديد في نظرنا، هو قبول فئة من المجتمع لهذا السلوك، بل والدعوة إلى ترسيمه، وإلى تحدي كل القيم والمرجعيات، باسم الحريات الفردية وما إلى ذلك. ولهذا فالمشتغلون بحقل القيم وتحولاته، كثيرا ما يلتفتون إلى بعض الأحداث التي تشكل شبه قطيعة مع قيم المجتمع، ويحاولون أن يبحثوا عن تفاصيل التفاصيل، لفهم كيفية ترويج قيمة من القيم، ولماذا تضمر قيم وتحيا أخرى؟ وكيف يواجه المجتمع تحول القيم من جيل إلى آخر؟ وما هي العوامل المتحكمة في تراتبية هذه القيم؟
نقول هذا الكلام، ونحن نعاين – كما يعاين أغلب الباحثين – أن المنطقة العربية، تعيش على وقع تحولات عميقة، لعل من بين مؤشراتها الكبرى، تضخم المسألة الجنسية، وكيفية تدبيرها من طرف المجتمع، ولماذا بدأنا نلاحظ انفجارا جنسيا مهددا بتغيير في بنية المجتمع، وفي أشكال علاقاته. فالجيل الشبابي الحالي، الذي عايش ظروفا أقل ما يقال عنها أنها تغري بممارسة الجنس؛ فالإعلام والأنترنيت وأشكال الموضة الحديثة وتقنيات التواصل السريع، سرعت من حضور الهواجس الجنسية أكثر من الأجيال السابقة. هذا في الوقت الذي يعرف فيه هذا الجيل إعادة لمنظومة قيم جديدة ولمجموعة من المؤسسات والمرجعيات والتقاليد، وعلى رأسها مؤسسة الأسرة. وقد يتولد عن ذلك، بروز ثقافة النفاق الاجتماعي، ففي حين يعبر الشباب عن رفضهم لبعض مظاهر “المخلة بالآداب العامة” (كما تشير إلى ذلك بعض استطلاعات الرأي)، لكنه في نفس الوقت يقبلها بمبررات عديدة، والغريب أنه يجد لها نوعا من القبول الاجتماعي. وهذه من أعوص الإشكاليات التي تشرط المنظومة القيمية، والتي تتداخل فيها العديد من العوامل وعلى رأسها المؤسسة التعليمية.
ثالثا: خلاصات وآفاق للتساؤل والحوار
ختاما، نعتقد أن التحول في مجال القيم، ليس بالأمر الهين أو الثانوي، بل إنه التحول الذي يمكنه أن يؤثر في بقية الحقول، سواء السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية، وواهم من يعتقد أن المسألة بسيطة وعادية، بل إنها محك لتحول مجتمعي عميق وممتد في الزمن، وله تداعيات وأكلاف وتبعات، وهو الحقل الذي يتأثر بشكل كبير بما يرشح من تحولات عالمية أو إقليمية أو محلية. وأحسب أننا في المجتمع العربي، بحاجة لفتح نقاش هادئ وعلمي ورصين في المسألة القيمية، بعيدا عن كل تشنج أو تنطع أو انغلاق أو تماه مجاني مع ما يسمى بالقيم الكونية؛ فالمسألة تقتضي التفكير في المشروع المجتمعي الذي نروم تحقيقه وتنزيله على أرض الواقع، والذي يخدم بالدرجة الأولى قيم الكرامة الإنسانية، سواء في شقها الفردي أو الجماعي. ولهذا فأية مقاربة تنحو نحو تجزيئ الحريات أو الحقوق إلى ما هو فردي أو جماعي، فهي مراهنة خاسرة للوطن وللمجتمع وللأفراد وللتاريخ.
_______
*مؤمنون بلا حدود