الافتتان بالوطن الأم


حلمي النمنم

 

روبير سوليه، روائي وصحافي فرنسي، ترأس تحرير اللوموند الفرنسية فترة، هو مصري الأصل، ولد في القاهرة عام 1946 وغادرها مع أسرته نهائيا بعد صدور قرارات التأميم واتجه الى بيروت فترة قصيرة ومنها انطلق الى باريس ليتعلم ويعمل ويقيم نهائيا، عاد الى مصر عام 1984 ومن يومها لم تنقطع زياراته لها، واصدر عدة روايات الأولى بعنوان «الطربوش» عن حياته هو واسرته في مصر.

وفي عام 2000 أصدر «قاموس عاشق لمصر» يضم 144 مادة عن مصر ولانه كتبه بروح المحب العاشق، لم يلتزم بالترتيب التاريخي ولا الموضوعي لفكرة القاموس لذا نجد فيه ما هو فرعوني كالحديث عن الأهرام وما هو إسلامي وما هو معاصر.. والقاموس يجمع بين الأشخاص أو الابطال والاماكن والمدن والمواقع فضلا عن الاحداث والوقائع المهمة.

ومؤخرا تمت ترجمة هذا القاموس الى العربية وصدر عن المركز القومي للترجمة العدد رقم 1800 وقبل هذا القاموس اصدر المؤلف «مصر.. ولع فرنسي» رصد فيه الاهتمام الفرنسي بمصر منذ فترة الحروب الصليبية وصولا الى الذروة مع نابليون بونابرت.

عن الايجيتوباتيا

يفسر سوليه للقارئ الفرنسي في تقديمه للقاموس معنى الهوس بمصر أو ما يسمى الايجيتوباتيا ويسميه المترجم عادل الميري «جنون مصر القديمة» ويقول سوليه «ان ما نطلق عليه بفظاظة جنون مصر القديمة ليس مرضا ولكنه انجذاب عميق يصل الى حد الافتنان. لقد سقط اليونانيون والرومانيون القدماء في هذا الجنون ولم تتوقف الحضارة الفرعونية منذ ذلك العصر اليوناني الروماني عن الاغواء والاثارة باثارها ومومياواتها ومصطلحاتها الهيروغليفية وقبل تلك الاسرار الغامضة هناك سحر شمس المنظر الطبيعي المصري وسحر تلك الصحراء الهائلة التي تعبرها حديقة». ويضيف سوليه الى ذلك البعد الاسلامي «.. وبما ان مصر كانت قد اصبحت احد مصابيح الانارة في الشرق المسلم فقد اضيف سحر جديد يخرج عن المألوف من سحرها القديم، وقد استمرا معا في تنشيط الاحلام والخيالات».

ولد سوليه وعاش طفولته وصباه في مصر وغادرها وعمره 17 عاما ومن ثم فهو عاش مناخ مضطربا بين الحربين العالميتين «كانت مصر كونا بلا حدود، ممتلئة بالحماسة وهدوء البال، حيث تعلم الناس من خلال انتماءات مختلفة، كيف يعيشون سويا، مسلمين واقباطا ويهودا وارمن ويونانيين وايطاليين وفرنسيين وشوام». ويشرح سوليه كيف اهتم أو انتبه الى مصر القديمة، ويضع يديه على مسألة مهمة تستحق الانتباه اليها يقول «يجب ان اعترف بأن مصر القديمة لم تكن التي في هذا الوقت ـ وهو يعد روايته الأولى ـ قد أثارت لدي أدنى اهتمام على الاطلاق، كانت لدينا في القاهرة الاهرامات وكان هذا كافيا الى حد بعيد، اذ كنا نعتبر ان الذهاب الى مصر العليا لاكتشاف المعابد، مسألة تخص السياح، لاننا كنا نتجه بأبصارنا الى الشمال المتوسط».

ولان روبير سوليه يعيش بعيدا عن مصر فقد اتاح له ذلك ان يرى وينتبه الى ما قد يكون عابرا بالنسبة للمواطن الذي يعيش في مصر، وانعكس هذا على بعض مواد القاموس مثل مادة «الخبز»، فهو يتوقف عند التسمية المصرية له «العيش» اي الحياة، فرغيف الخبز يساوي الحياة عند المصريين وسعره بسيط جدا «ان الثمن التافه جدا لرغيف الخبز في مصر هو صاحب الفضل في ان احدا لا يموت جوعا في هذا البلد» ثم يقول «ليست هناك وجبة مصرية واحدة يمكن تخيل تناولها بلا خبز». ويرصد تاريخ الرغيف في الحضارة المصرية، في عصر الدولة الحديثة من القرن 16 الى القرن 11 قبل الميلاد كان هناك اربعون صنفا مختلفا من رغيف الخبز وفي القرن التاسع عشر كان هناك فرن داخل كل منزل مع الاستعانة ببعض النسوة المحترفات اللاتي ينتقلن بين المنازل للعجن والخبز وحتى تصل القرن العشرين كان التصور السائد ان خبز الأسواق لا يأكله إلا الفقراء. ومن اطرف المواد التي يقدمها مادة «معلهش» ويبحث في اصلها اللغوي ليجد انها تتكون من ثلاث كلمات ما/ عليه/ شيء، وفي الاستعمال العامي تم دمج الكلمات في بعضها والاستغناء عن الضمائر، لتتولد هذه الكلمة العجيبة «معلهش» التي نسمعها طوال النهار في التعاملات العادية بين المصريين وهي حينا تعني الاعتذار والتأسف اذا شعر انسان بأنه اخطأ في شيء أو في حق احد، وهي تعني مرة طلب السماح والاستئذان في فعل شيء، وفي موقف ثالث تعني التشكر «معلش: مش قادر» وهكذا يصل روبير سوليه بعمق واناة الى انماط من السلوك وطرق للتعامل ربما لا يجدها في مجتمع آخر.

تدقيق وتصويب

القاموس رغم اهميته يحتاج الى بعض التدقيق والتصويب، خاصة المواد التي تتعلق بعدد من الشخصيات والزعماء في حديثه عن الزعيم سعد زغلول، يذكر سوليه ان سعد كان يحضر صالون الاميرة نازلي ويقول انها سوف تصبح فيما بعد زوجة للملك فؤاد وأماً للملك فاروق، وهذا خطأ، ذلك ان صاحبة الصالون هي الاميرة نازلي فاضل ابنة الامير مصطفى فاضل الذي حرق فرمان توريث الحكم في ابناء الخديو اسماعيل حكم مصر، اما نازلي والدة فاروق فلم تكن اميرة ولا من الاسرة العلوية وهي حفيدة سليمان باشا «الكولونيل» سيف الذي شارك في حملة نابليون ثم استدعاه محمد علي ليساهم في بناء الجيش وعاش في مصر واعتنق الاسلام، ومن المعلومات التي تحتاج الى تدقيق ايضا قوله ان الرئيس عبدالناصر وصل في الجيش الى رتبة كولونيل «عقيد» والواقع انه وصل الى بكباشي اي مقدم في القوات المسلحة.. وهناك ايضا ما يذكره عن اللواء محمد نجيب من ان الضباط الاحرار ايقظوه من النوم ليلة 23 يوليو ليضعوه على رأس حركتهم، وهذا غير صحيح والثابت ان نجيب كان عضوا في الضباط الاحرار منذ مارس 1952 على الاقل.

كتب روبير سوليه القاموس بروح المحب المفتون بمصر وبالمصريين، لكن هذا لم يمنعه من توجيه بعض الانتقادات وابداء الملاحظات السلبية حول بعض أوجه الحياة مثل وضع المرأة الذي يتراجع في المجتمع المصري خلال العقود الاخيرة. ويتساءل روبير «كيف يمكننا تجاهل الوجه الآخر للصورة؟ هل يمكن ان اصمت؟ هذا في نظري يضعف ويشوه ويسيء الى هذا البلد الذي جئت منه فبسبب حبي لمصر واحترامي للمصريين فإن صفحات القاموس ليست كلها اعجابا، فهناك اشياء تدعو الى القلق» مثل موضوع اتلاف وتبديد تراث البلد وثرواته الطبيعية، وهناك موضوعات قد تغضب البعض مثل التعصب الديني والتعدي على الحريات وموضوعات محرمة مثل ختان البنات» ثم يقول «ان هذا البلد يفتنني ويغريني، واشعر اكثر بقوة ارتباطي به عندما يعذبني..» ويقول ايضا «ان مصر بالنسبة اليّ لغز كبير، وكل قطعة جديدة من المعرفة، تأتي لتضيء بعض الشيء، تاريخا طوله تسعون قرنا..».

– عن الاتحاد

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *