*فوّاز مزيّك
لا يزعم هذا المقال الارتقاء إلى صفّ الدراسات الأكاديمية، ولا هو بحث ناجز يحيط بموضوعه باقتدار، وإنما محاولة تطمح لإلقاء شعاع ضوء على ما يجري من طغيان دين جديد، يتوسّل بالعنف والتشدّد والإلغاء من أجل إيصال رسالته.
لم تنج دولة أو عصر من ظاهرة الفكر المتطرّف. التطرّف في ثوبه الإسلامي كان موجوداً منذ العهد الراشدي واستمر خلال كل الخلافات اللاحقة. تغيرت الأسماء والمسمّيات والأزمنة، لكن سمة رئيسية ثابتة تنتظم بها كل أشكال التطرف، ألا وهي محاولة إلغاء الآخر. إلغاؤه كفكر، بكل ما يتشعب من كلمة فكر من معان، سواء على مستوى المعتقدات، أي الإطار المرجعي الذي يقيس عليه هذا الفكر نتاجه ونتاجات الآخرين، أو على مستوى الآراء والمقولات، أي النتاج الذي ينشئه هذا الفكر خلال علاقته الجدلية مع المحيط والواقع.
على صعيد آخر، هو إلغاء مادي، فيزيائي. لذا تكثر في الفكر المتطرف – الديني منه خصوصاً – فتاوى وممارسات تشريع سفك الدم والاغتيال. إنه إلغاء كامل للمخالِف. فالمتطرّف في حالته الدينية، ماهيّة لا تقبل ماهيّات مفارقة، وفي هذا هو يتوحّد بإلهه ويستعير منه الصفات التي أسبغها عليه. ومن حيث هو ذراع الله، أو منفّذ لإرادته الله، فهو لا يخطئ، بينما يخطئ الآخرون جميعاً. من ثمّ، هو لا يقبل بالحوار، ولا يتراجع عن أي جزئية من فكره، ولا يبحث عن حلول وسط. وهو لن يتوقف أبداً عن الغلوّ والعنف. هل يتوقف إله عن الفعل؟
يذكر نصر حامد أبو زيد بين آليات الخطاب الديني: “اليقين الذهني والحسم الفكري (القطعي)، ورفض أي خلاف فكري – من ثم – إلا إذا كان في الفروع والتفاصيل دون الأسس والأصول” (نقد الخطاب الديني، 1994، القاهرة، سينا للنشر، ص 67). إلاّ أن هناك فرقاً جوهرياً بين التطرف الإسلامي قديماً وحديثاً. فالقديم نشأ عن قاعدة الأصول، إذ كان ينطلق من تفسيرات مفارقة وأصلية (original) للرسالة الإلهية، ومن ثم كان تجديداً في الأساس. كان موقف رفض للدولة (الخلافة) ومؤسساتها التي بُنيت على تفسيرات فاسدة، في رأيه، للعقيدة. النتائج كانت مأسوية دائماً. فبسبب تطرفه بالذات كانت نتائج ممارسة ذلك الفكر تلغي تلك الإيجابية. كأنه كان يرفع أتباعه إلى ذرى جديدة ليلقي بهم بعدها مباشرة إلى الهاوية. إلا أنه يبقى مع ذلك، من منظور تاريخي، إضافة ستترك بصماتها بغض النظر عن النتائج الآنية.
أما التطرّف المعاصر فتوقف عن اللعب بالأصول. فالاختلاف والتعصب والتناحر حاصلة في الفروع، وفروع الفروع (الاستشهاد السابق نفسه). يستطيع المتطرّفون الآن أن يقتتلوا مع الآخرين، وفي ما بينهم، حول جواز ظهور رسغ المرأة أم لا، وحول أنواع الجنّ وطبقاتها إلخ. لذا لم يعد التطرف الحديث يحمل أي إضافة قِيَميّة، ولو تافهة، للواقع. بل بالعكس، أصبح اختزالاً لما هو موجود، نكوصاً، تدميراً منظّماً لكل ما هو مفارق لهذا الفكر في الخزّان الثقافي للجماعة. وكل ما هو مفارق لفكر الجماعة، يعني كل شيء تقريباً.
في الأسباب
ما الأسباب التي أدّت إلى تفشي أفكار التطرف في وقتنا هذا؟ من الصعوبة سوق إجابة وافية تحيط بمجمل جوانب السؤال. فللمسألة جوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والظرفية أو التاريخية، ويحتاج بحث كل جانب منها إلى مجلدات. لكن يمكن القول باختصار شديد إن هناك عوامل تبدو أكثر بروزاً من غيرها في تفسير استشراء التطرف الديني.
أهمّها قصور حركة التنوير في الفكر العربي. لا أقول فشلها لأنها لم تتوقف ولم تستوف كل إمكاناتها بعد. إن حركة التنوير والعلمنة في العالم العربي، التي بدأت إرهاصاتها الأولى منذ عهد محمد علي في مصر، لم تكن موحدة الأهداف ولم تتبنّ هدفاً رئيسياً لها محاربة الفكر الديني المتخلّف والمُنافي للعقل والحياة. كما أنها على الصعيد المطلبي، الاجرائي، لم تضع مطلب فصل الدين عن الدولة والتعددية السياسية كأولويتين حاسمتين لبناء مجتمع معاصر نشط. منذ بداياتها حصرت حركة التنوير العربية نشاطها بمسارب رئيسية ثلاثة: نقد خجول للسلبيات الاجتماعية والسياسية التي تعاني منها مجتمعاتها وتبنّي حلول إصلاحية جزئية دائماً وناقصة دائماً؛ نقل مع بعض المناقشة للمذاهب الكبرى التي سادت الحركة الفكرية في الغرب (المادية، الوضعية، الوجودية، البنيوية… )؛ وأخيراً تعريف العالم العربي بالوجه الآخر للغرب بعيداً من الصورة الصليبية-الاستعمارية السائدة. الغرب المنظّم، العقلاني، المحبّ للعمل.
إلا أن قصور حركة التنوير تجلى في مظاهر ثلاثة أيضاً:
أولاً، بدأت حركة التنوير العربية من الذيل وليس من الرأس. فالفلسفة المادية أو الوجودية، مثلاً، هما نتاج سلسلة طويلة من الفلسفة النشيطة، بدأت منذ عصر الإغريق ولمّا تنته بعد. بدون بعث الفلسفة وجعلها جزءاً بنيوياً من العقل العربي، يصبح عرض مثل هذه التيارات الفكرية للمتلقي العادي كمن يشاهد فيلماً سينمائياً سرعان ما ينساه.
لننظر في التاريخ. لقد بدأت النهضة العربية- الإسلامية في العصر العباسي الأول بالترجمة أولاً، وإعادة تمثّل التراث الإغريقي والسرياني والفارسي واللاتيني، ثم بعد ذلك فقط بدأ النقد والإضافة والإبداع. إن أهم مفكّري الحضارة العربية- الإسلامية هم الذين ناقشوا ونقدوا وأضافوا إلى ذلك التراث الفكري، ليس من منطلق الرفض والإنكار، بل داخل تلك المنظومة العقلانية المنطقية، وبواسطتها. إنهم بالضبط أولئك الذين كانوا خارج المنظومة الأشعرية- الغزالية والمناوئين لها (الرازي؛ الفارابي؛ الجاحظ؛ ابن المقفع؛ ابن رشد…إلخ). مرةً أخرى، عندما بدأت حركة التنوير في أوروبا القرن 16، كان أول ما بدأت به هو إحياء التراث الفكري الإغريقي، وحتى العربي- الإسلامي، من حيث هو استمرار أصيل ونوعي لذلك التراث. كانت بصمات ابن سينا والرازي وابن رشد واضحة في النهضة الفكرية الأوروبية الأولى، إلى جانب بصمات أفلاطون وأرسطو وديموقريطس.
كان المطلوب إذاً، إعادة مؤالفة العقل العربي، بعد طول جفوة، مع التاريخ الطويل لمناهج التفكير والمذاهب الفلسفية التي مرّت بها الحضارة الغربية، من التأملية- المنطقية (أفضّل استعمال تعبير التأملية- المنطقية بدلاً من العقلانية- المنطقية عند الحديث عن الفلسفة الإغريقية، لأن العقلانية صفة مشتركة لكل المناهج التي تتوخى فهماً لا أسطورياً للوجود. ولأن الفلسفة الإغريقية، في بواكيرها على الأقل، اعتمدت أساساً على التأمّل والحدس لصوغ مسلّماتها ومقولاتها الأساسية) حتى المادية- التجريبية الحديثة (يقول محمد أركون: “ولكنني أعتقد أنه من الضروري، بل والمحتوم، أن نأخذ علماً بالحقيقة التالية: ألا وهي اختفاء الفكر الفلسفي من إطار الفكر الإسلامي منذ موت ابن رشد عام 1198 وحتى يومنا هذا” “الفكر الأصولي واستحالة التأصيل”، 1999، بيروت، الساقي، ص 303). لم يكن من المهم التحزّب كمادّيين ومثاليين (ميتافيزيقيين) والصراع بين الطرفين كما لو أن المنهجين أصيلان وبنيويان في فكرنا، بل كان من المهم إعادة زرع الفلسفة بشقّيها الرئيسيين، كليهما، في صحراء العقل العربي كوسيلة لتفعيله، وكمنهج لإعادة إنتاج المعرفة، بدلاً من المنهج التلقيني السلبي الذي يلغي دور العقل باستثناء الحفظ والتكرار.
ثانياً، لم يظهر، بعد، ذلك المفكر الشامل الذي يصهر مختلف الأقنية التي أسسها التنويريون الأوائل لبناء منظومة معرفية متكاملة، عصرية وبديلة، للإرث القَدَري الكلياني السائد، ولصوغ مذهب فلسفي- اجتماعي ذي نتائج آنية وإمكانات قوية للتطبيق. بكلمة أخرى، لم يظهر روسو أو فولتير عربيان.
هذه المهمة الهائلة حاول ويحاول أن يقوم بها محمد عابد الجابري من المغرب، وصادق جلال العظم من سوريا، وحسن حنفي من مصر، وإلى حد ما عبدالله العروي وعزيز العظمة ومحمد أركون بنجاح متفاوت وتقدير متحفّظ لعدم اكتمال المهمة. مع تأكيد اختلاف مناهج هؤلاء البحّاثة وتباين منطلقاتهم الفكرية والفلسفية والتراثية، وتالياً سبل مقارباتهم للمهمة المطروحة افتراقاً كبيراً.
ثالثا، لم تُعنَ حركة التنوير العربية إلا في ما ندر، بنقد الفكر الديني السائد كمهمة أولى وأساسية من أجل النهضة. فلم يكن من أولوياتها تفكيك المنظومة المعرفية والأنطولوجية اللاهوتية، ودحضها، وهدمها من أساسها الأسطوري السلطوي العطالي. بل لامس كلٌّ من أقطاب التنوير جانباً فرعياً من تلك المنظومة، فكان قاسم أمين اجتماعياً، والكواكبي سياسياً، ومحمد عبده مصلحاً، وطه حسين ناقداً، وحسين مروّة تراثياً،… بينما سقط المفكرون القوميون والماركسيون في فخّ السياسة اليوميّة ومهمات النضال الآنيّ، ناهيك بالصراعات والمجادلات العقيمة في ما بينهم. نسي الجميع الأهمية المطلقة للديموقراطية كأساس وثيق لبناء الدولة القوية المزدهرة، أو اعتبروها في أحسن الحالات حلية جميلة يمكن تأجيلها حيناً من أجل قضايا أكثر إلحاحاً.
العامل الثاني في استشراء التطرف الديني، هو امتداد للعامل الأول، ونتيجة له. فسبب قصور حركة التنوير ونقلها للتراث العقلاني والعلمي العالمي بالشكل السطحي، مبتوراً عن جذوره الفلسفية العميقة، لم يصل هذا التراث سوى إلى شريحة عليا من البحر البشري الغارق في العماء. هذه الشريحة – التي أثبتت في ما بعد أنها تلميذ غير نجيب لأساتذة ضعفاء – هي التي شكّلت المستودع الأساسي الذي خرج منه رجال الدولة والحكم، حكومات ومعارضة، بعد الاستقلال. لم يدرك هؤلاء الأهمية القصوى لدفع حركة التنوير والعلمنة إلى أقصى حد، وإضفاء دعم الدولة لأقطابها. لم يدركوا استحالة بناء مجتمع حديث، وتالياً دولة عصرية قوية، بدون انتشال الجماهير من براثن التفكير القروسطي الجامد. وجدوا أعداءهم من بين صفوفهم، ولم يفهموا أن العدو الوحيد أمام تطلعاتهم، مهما اختلفت أحزابهم ومذاهبهم، هو هذا الركام الهائل من الجهل والتعصّب الذي غرقت فيه مجتمعاتهم. فمالأوا وهادنوا، بل، وفي مرات كثيرة، دعموا أقطاب الفكر الديني المتشدّد، وتحالفوا معهم بعضهم ضد البعض الآخر. لم يدركوا أنهم من أجل تكتيك سياسي آني، إنما كانوا يبيعون مستقبلهم ومستقبل أوطانهم كلها على المدى الطويل. بهذه الجماهير الغارقة في الجهل، وبهذا التراث الغيبي الجامد، حاول القوميون بناء الوحدة، وحاول الاشتراكيون تحقيق العدالة الاجتماعية، وحاول الليبيراليون تحقيق التعدّدية، وحاول الوطنيون هزيمة اسرائيل؛ فمن منهم نجح؟ من منهم استطاع حتى المحافظة على ما كان قد تحقق؟
العامل الثالث، وأيضاً كامتداد لما سبق، فإن فشل كل المشاريع الاجتماعية – السياسية المذكورة، أظهر المشروع الديني كاحتمال بديل وارد. وخصوصاً أنه رُبط دائماً، زوراً، بالعصر الذهبي للدولة العربية – الإسلامية، علماً أن المشروع الديني كما يطرح اليوم هو بالذات الذي قضى على تلك الدولة. ولكن كم عدد الذين درسوا التاريخ والتراث بعيون مفتوحة وأدركوا هذه الحقيقة؟
منذ الصراع الذي قام بين البيت الأموي والبيت العلوي على السلطة، وتحديداً بعد المذابح المتتالية التي أصابت آل البيت واستتباب الأمر لآل أمية الذين استغلّوا الدين الجديد لتوطيد سلطتهم وإحكام قبضتهم على رعيتهم، ارتبط الصراع من أجل “إنقاذ” الدين بالصراع ضد السلطة في وجدان المسلم العادي الورع.
إن الحزب الديني، أداة هذا الصراع، موجود دائماً بدون أن يكون له رئيس أو مكتب سياسي أو مؤتمر تأسيسي. إنه موجود بقوة الواقع: إيديولوجيته “الإسلاموية” حاضرة، اجتماعاته الدورية تتكرر كل اسبوع (خطبة الجمعة والدروس الدينية)، مقارّه منتشرة وجاهزة بدون تعب ولا نفقات (المساجد والزوايا والجمعيات الدينية)، وبرنامجه السياسي حاضر في تضاعيف الفقه الإسلامي والتراث المريب من نوع “يُحكى أن” و”يُقال إن”، و”حدّثنا فلان عن فلان”… من ناحية ثانية، فإن تفريغ الكبت المركّب المتفاقم في نفس الشاب العادي قد ينفجر بشكل تدميري أحياناً. بكلام آخر، فإن العقد الفظيعة تجاه الجنس الآخر، خصوصاً، وتجاه الأب والمعلم والشرطي، قد تجد متنفّساً لها بالانسحاب إلى زاوية مسجد مع “أخوة” يعانون الوضع نفسه، وتحويل القهر إلى نضال ضد “الكفّار والمارقين”، وهم الدولة (المسؤولة، استطراداً، عن هذين القهر والإحباط) وكل من يتعايش معها. تالياً، إضفاء معنىً سامٍ على نزعة التدمير التي تتملّك الشباب المحبط، الناتجة من سوء تكيّف حاد مع المحيط، وانسداد أفق الأمل بتحسّن الأوضاع مستقبلاً، بإلباسها لبوس العدالة والشريعة. في ظروف فشل المشاريع القومية والوطنية البديلة، يعزّزها واقع اقتصادي رديء وواقع اجتماعي أردأ، يكتسب هذا المنحى “النضالي” مشروعية طاغية.
… وفي النتائج
بوجود العوامل السابقة، من حزب ديني جاهز، وكوادر “متفانية” مثل هذه، لا يبقى سوى خطوة واحدة حتى يستغلّ أحد الطامحين للسلطة هذا الوضع، فيعلن الله رئيساً فخرياً للحزب، ويبدأ بإطلاق الفتاوى وشحذ السكاكين.
ليست هذه نظرة تبسيطية أو أحادية الجانب لحقيقة الأمر. فالمفكّرون المسلمون العاديون والمتبحّرون في الفقه والتراث موجودون بعدد أكبر بما لا يقاس من أمراء التطرف. ولم يتوصل أحد منهم، إطلاقاً، إلى فتاوى قتل رجال الشرطة، ونهب أموال أبناء الطوائف الأخرى، وتكفير العلماء، وإطلاق النار على السياح، ونسف الأسواق بالسيارات المفخخة، والتنكيل بأهل الأدب والفكر والفن. بل إن الكثير من هؤلاء أصبحوا هم أنفسهم عرضة لتنكيل طوائف التطرف. وليس اغتيال الشيخ محمد حسين الذهبي وتكفير الدكتور نصر حامد أبو زيد والمستشار سعيد العشماوي إلا أمثلة على “أسلوب النقاش” المعتمد لدى أتباع الاسلام السياسي. ناهيك بتكفيرهم العلمانيين والديموقراطيين والليبيراليين والأقباط… وبعضهم بعضاً.
العامل الرابع الذي يمكن إيراده في هذا السياق ليس عاملاً مؤهباً مثل ما سبق، بل عامل ظرفي نشأ على التوازي مع موجة السعار السلفي فساعد على سرعة تفشّيها واشتداد فوعتها. وهو نشوء ما يمكن تسميته الدولة الأمنية التي بدأت ترتسم ملامحها منذ أواسط السبعينات في معظم الدول العربية (أنا مدين بهذه الفكرة للدكتور طيب تيزيني في محاضرة ألقاها في جامعة دمشق عام (1995. هذه الدولة، ببعد نظر نادر ليس من مميزاتها في العادة، خشيت دائماً من التيارات الديموقراطية والعلمانية والليبيرالية ورأت فيها التهديد الرئيسي لوجودها. لذلك مالأت التيارات السلفية أو غضّت الطرف عن نشاطاتها. وفتحت لها مجالات واسعة للعمل في المؤسسات التعليمية والإعلامية والنقابية لأنها رأت فيها حليفاً طبيعياً وسدّاً كتيماً أمام المطالبة بالديموقراطية والتعدّدية التي اشتدّ عودها خصوصاً في العقدين الأخيرين. تزامن هذا كلّه مع استمرار الكبت المنظّم لكل فكر متنوّر في البلاد، مما أدى إلى انتشار الفكر السلفي انتشار النار في الهشيم، وأصبح لدينا فجأةً أساتذة جامعة استبدلوا نظريات داروين وأينشتاين بنظريات ابن باز؛ وأطباء استبدلوا التطبيب بالتعذيب (بدفاعهم عن ختان البنات)؛ وعلماء اقتصاد استبدلوا قوانين الاقتصاد والنظام البنكي بكيفية جمع الجزية والزكاة. وتجشأت المطابع ألوف الكتب “العلمية” عن طبقات الجنّ، والمسببات الشيطانية للأمراض، والاستطباب بالرقيّ وأجنحة الذباب وبول البعير.
بكلمة واحدة، عدنا إلى الصفر تماماً!
__________
* كاتب سوري وأستاذ مشارك في جامعة ممفيس (الولايات المتحدة الأميركية)/(النهار)