النقيض



*عبد الصمد زهور


خاص ( ثقافات )
يقول هراقليطس في إحدى شذراته الشهيرة، “الحرب- بوليموس- أم الأشياء”. 
فما الذي يعنيه بذلك؟
إن القيام بمحاولة تحليلية تروم “تحديد” معنى هذه الشذرة ليس بالعمل السهل، خصوصا وأن هرقليطس يشكل قطبا تابتا في الفلسفة الغربية المعاصرة، إذ يحضر بقوة كبيرة في النصوص الفلسفية لفردريك نيتشه ومارتن هايدغر وجيل دولوز وغيرهم من الفلاسفة الراسخة أقدامهم في عمق التفلسف.

 من هنا صعوبة المجازفة بقراءة أحد شذرات الرجل دون استحضار كل هؤلاء، وهو الأمر الذي لن نقوم به، لسبب بسيط هو كون ورقة من هذا القبيل لا يمكن أن تعبر عن احترام لكل هؤلاء الذين ذكرت أسمائهم، حيث يتطلب القيام بعمل من قبل ذاك زمنا وقدرة وتفرغا، وهي المتطلبات التي لا نعتقد أنها تتوفر فينا ولنا إلى حدود كتابة هذه الأسطر بالتمام. وعليه سنعمل فقط على ملامسة بعض الممكنات التي تحبل بها هذه الشذرة دون ربطها بالمتون الفلسفية لهؤلاء الذين ذكرناهم. هكذا فبرجوعنا إلى الشذرة المذكورة نجد أن هرقليطس يسند صفة الأمومة للحرب، فتكون على هذا الأساس مولدة كل شيء، والحرب لا تكون إلا بين الأعداء بلغة السياسية، وبين الأضداد بلغة أهل الفلسفة والتفلسف على الطريقة اليونانية الما قبل سقرطية، إن معنى قول هرقليطس بأن الحرب أم الأشياء هو أنا النقيض يولد نقيضه، فالشقاق أب الأشياء وملكها، فلولا الخير لما كان هناك معنى للشر، ولولا المرض لما كان هناك طعم للصحة، ولولا العمل لما نعمنا بالراحة، ولولا الخوف لما كان للإحساس بالأمن وجود، فالحياة موت يتلاشى، والموت حياة تزول. وبذلك تكون الحرب أما للأشياء جميعا، من حيث أنها تمنحها صفة الوجود وتضفي القيمة على هذا الوجود. فلنتخيل حياة بدون حرب بين المتناقضات، لنتخيل على سبيل المثال راحة بدون تعب. من البين أن تخيلا من هذا القبيل، ينتهي إلى إعدام إمكانية وجود الاثنين، فكل مطلق واحد لا يعبر سوى عن الموت ضمن الحياة الإنسانية، وهو ما لا يفهمه حسب هرقليطس معظم الناس الطامعين في حياة بدون هذه الحرب، غير واعين بأنها هي التي تمنحهم ما يريدون، فهم بالنسبة إليه كالحمير يفضلون التبن عن التبر، لأنهم لا يريدون إعمال عقولهم لاكتشاف ما للنقيض في الحياة من أهمية. لأن اكتشافا من هذا القبيل يتطلب عملا وعمقا فلسفيا يُتعب صاحبه. ولذلك تجد هرقليطس أيضا يقول إن الذين يبحثون عن الذهب يقلبون الكثير من التراب لكي يجدوا منه القليل، بالإضافة إلى كل الأشياء هي خيرة بالنسبة للإله، أما بالنسبة للبشر فإن بعضها خير وبعضها شر، بعضها حلو وبعضها مر، وأغلب البشر يريدون طرفا دون الأخر، هو طرف الحلوة والخير، والحق أن إراداته هذه هي تعبير عن جهلهم بكون الحلوة لا معنى لها بدون الطرف الأخر، وبدون الحرب القائمة بينه وبين هذا الطرف الأخر. فلا سعادة بدون شقاء. ففي التوتر الذي يسكن الوجود تتولد الأشياء، والموت على الحقيقة ليس سوى عدم وعي بهذا التوتر، وبكون الصيرورة هي القلب النابض لهذا العالم، فنحن لا نسبح في النهر مرتين لأن مياها جديدة تسبح من حولنا دائما. وفي جريانها الدائم تعبير عن كون الحياة لا زالت تسري في هذا العالم. بغياب النقيض يغيب نقيضه، وبغياب الحرب بينهما ننتقل من الوجود إلا اللاوجود، فالحرب أم الأشياء، راعيتها ومرضعتها والمحافظة على حياتها، والمضفية على وجودها قيمته.

بعمق من هذا القبيل لا يسعنا سوى أن نؤكد على محورية هرقليطس في تاريخ الفلسفة، وهي المحورية التي يجسدها كما سبق وأشرنا حضوره البارز والقوي في الفلسفة المعاصرة، وفلسفة الاختلاف بصفة خاصة. وهو الحضور الذي ينبغي أن يتجسد من خلال حياتنا وفهمنا للحياة كمتفلسفين، فهرقليطس يؤسس من خلال هذه الشذرة ومن خلال مختلف شذراته فلسفة للحياة، أي للفلسفة كفن للعيش ينبغي علينا أن نبلوره واقعيا.

شاهد أيضاً

العولمة بين الهيمنة والفشل

(ثقافات) العولمة بين الهيمنة والفشل قراءة في كتاب “ايديولوجية العولمة، دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” لصاجبه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *