أحيانًا أبكي، لأنني لم أمت في الحرب!


*محمود جودة


خاص ( ثقافات )
يبدو أن الأمرَ مريحٌ للجميع الآن، فلا صورَ للدماء، ولا مجازر، ولا عائلاتٍ تُباد عن بكرةِ أبيها وتُمحى من السجل المدني في لحظات. لا أصواتَ للقنابلِ والصواريخ، ولا نساء يصرخن على أبنائهن الذين يئنون تحت الركام. لا شيء من قرطاسية الحرب باقية الآن. فلا شيء يستفز الكاميرات للعمل في غزة، فقد توجهت إلى أماكن أكثر قابلية للتصوير، وللموت السريع والمدهش والرخيص.
الأمر عكس هذا يا رفاق، ما نعانيه اليوم في غزة أكثر حرقة ووجعاً من صور الأشلاء الممزقة، والبيوت المُقطعة، فمَن قُتل في الحرب كان هو الفائز الأول والأخير. الوجع الآن لمن تبقى على قيد الحياة من أهل الحظ السيئ، كما نحن!
عن ماذا أخبركم يا رفاق؟ عن حديد أسِرّة المشافي التي تبكي من يعتليها من جرحى، أم عن الأنين الخارج من بطن الشجر، أم عمّن فقدوا النطق، ولا مجاز هنا، فلا أقصد من ماتوا، لا، بل أقصدُ من فَقدوا القدرة على الكلام وعلى السمع، من يهابون السيرَ في الشوارع ورؤيةَ السماء. هذا عالمٌ آخرُ في غزة، عالمُ المرضى النفسيين، شبابًا وشاباتٍ في عمرِ الزهور قد أصابهم اللّوثُ العقلي مما شاهدوه أمامهم مِنْ فَقدِ أسرِهم وأحبتهم.
عن ماذا أحدثُكم؟ عن عشراتِ العائلاتِ التي أصبحت بلا مأوى، بلا «حصيرة» ليريحوا عليها أجسادَهم المُتعبة، بلا غازٍ كي يصنعوا «غلاية» شايٍ يشربونها في لمَّة العائلة، بلا مياهٍ نظيفةٍ كالتي تشربُها أنت الآن، بلا حمّامٍ يدخله أيٌّ منهم إذا أراد أن يريح بطنه من وجع البرد، بلا ملابسَ نظيفةٍ من رائحةِ العرق.
الوضع مُقرفٌ يا رفاق، مُقرفٌ لدرجة أننا نحسدُ من مات، فهو وحدُهُ من «خَرجَ من خزان» غزة، منتصراً، حتى وإن كان خروجُه صعباً فلا بأس، فلحظاتُ الولادة تكون مؤلمةً دوماً.
وُلدَ من قُتلَ في موتِهِ من جديد، وطلَّق هذه الجغرافيا الصعبة العنيدة، فإن كان في الجنة مثواه فنعم الفوز، وإن كان في النار فلنْ يشعرَ بفرقٍ كبيرٍ عمّا كانَ فيه قبل الموتِ في غزة.
أعلمُ أنني أثقلُ عليكم يا رفاق، وأنني أنغصُّ عليكم يومكم الهادئَ الجميل بهذه الأسطوانة المُقرفة والمكررة التي أذكركم فيها، لا أطلب من أحدٍ شيئاً، أنا فقط أكتب، وأحياناً أبكي، لأنني لم أمتْ في الحرب.
_________
*من المجموعة القصصية غزة اليتيمة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *