*خيري منصور
الثقافة في أقصى تجلياتها هي الأطروحة الكونية والتاريخية المضادة لفقه القطعنة ولكل إفرازات التماثل والامتثال، لأنها عصيان على ما هو اتباعي يستمد شرعية الديمومة من الاستمرار والجهل الذي يسميه أوليفييه روا مقدسا، وهو ما يفضي بالضرورة إلى الجهل المدجج بكل الأسلحة، وأقرب مثال هو التيارات الأدبية التي بدأت بعدد من الأفراد، ثم حسم الأمر لأحدهم كما حدث في المستقبلية الإيطالية والروسية، حيث لم تستمد مفاعيلها إلا من مارنيني وماياكوفسكي، وكذلك في السريالية والدادائية، وإلى حدّ ما في الوجودية والظاهراتية، والأكثر تطرفا في تلك التيارات انتهى إلى تأليف كتب عن فن الطبخ، كما حدث مع بيرلوك الذي كان يمسك بأعناق الشعراء طالبا منهم أن يتقيأوا كل ما تعلموه وورثوه من بوشكين.
إن أسباب تشكل القطيع، سواء كان من الطبيعة كالحيوان أو من التاريخ كالبشر المنزوعي الإرادة تعود إلى الدفاع عن النفس، بحيث يصبح قطيع الخراف أسدا لكن ليس على طريقة بول فاليري، الذي وصف الأسد بأنه قطيع خراف تم هضمها وتمثلها، فالحيوانات القوية لا تتشكل منها قطعان إلا نادرا ولأسباب تتعلق بالبيئة وليس بالخوف، بحيث يصعب أن نتخيل قطيع نمور أو فهود أو أسود، فهي تميل إلى العزلة ومنها ما لا يستطيع التثاؤب بحرية إلا على المرتفعات كالفهد، لكن القطعنة في التاريخ أخذت مجرى آخر، بدءا من الاستبداد وسلب الإرادة أو شلّها، بحيث يجد الفرد نفسه قليلا ولا بدّ أن يلتئم في قطيع، وهذا ما أشارت إليه على نحو مباشر أو غير مباشر دراسات نفسية واجتماعية، منها ما كتبه جوستاف لوبون قبل قرن، وإذا كانت بعض الإستراتيجيات ذات التوجه الشمولي قد نجحت في التلاعب بالرأي العام ولو لبعض الوقت فذلك لأن منطلقاتها كانت استثمارا لنزوع القطعنة وما ينتجه من سطوة الأعراف والتقاليد، وثمة مقولات موروثة في ثقافتنا تكرس الوعيد بعقاب من يغرد خارج السرب، أو يعزف منفردا، لأنه عندئذ يصبح الشاة السوداء في القطيع أو البعير الأجرب في القافلة، وفي الحالتين يجب استبعاده.
وهناك قصيدة للشاعر بروك عن نمر تم تدجينه في قطيع ماعز، لكنه ذات يوم رأى وجهه المختلف على صفحة الماء، فانتفض وفتك بما وصلت إليه مخالبه من القطيع والراعي معا، وهو يذكرنا بقصة زكريا تامر «النمور في اليوم العاشر»، التي انتهت إلى فقدان كل ما له صلة بجنسها وتكوينها وأصبحت تأكل العشب، لهذا كانت بحاجة إلى يوم إضافي هو الحادي عشر كي تدرك الحقيقة، كما أدركها نمر بروك، وعندئذ تنتهي تلك الدراما الحيوانية التي ألفها الرعاة، سواء بعصيهم أو صولجاناتهم أو بنادقهم!
وقد تكون قراءة «جلفر في بلاد الأقزام» لجوناثان سويفت قابلة لتأويلات سايكولوجية واجتماعية وثقافية، لأن هناك على الدوام أفرادا عصيين على القطعنة، وهم أشبه ببيكاسو، كما وصفه سارتر وقال إنه كان عسير الهضم ويسبب الغثيان لأي حزب أو جماعة، لأن الحزب والجماعة يختنقان به كما يحدث لأفعى البوا إذا التهمت حيوانا يتجاوز حجمه قدرتها على الابتلاع.
ولو راجعنا بيانات الاستقالة التي تقدم بها مفكرون وفنانون وشعراء ومن مختلف القارات لأحزاب، لوجدنا أن القاسم المشترك بينها هو الفردية العصية على التدجين والامتثال، ومن هذه الاستقالات للمثال فقط موقف البير كامو وروجيه غارودي الذي تضمنه كتابه المسأله كلها وسارتر ذاته.
وفي العالم العربي لدينا أمثلة في هذا السياق، لكنها ليست بالجدية الكافية لأن هناك استقالات مدفوعة الثمن، كما أن هناك انتماءات كالتي عبر عنها محمد الماغوط بسخرية وهي أنه انضم كعضو إلى حزب يمتلك في مقره مدفأة، كان يلوذ بها في ليالي الشام الباردة!
وفي ثقافتنا الراهنة بل الرهينة فإن من يملك حجر المغناطيس لجذب نشارة الورق وليس برادة الحديد تجلت القطعنة في مهرجانات وفعاليات ذات قشرة ثقافية، لكنها في الواقع مجرد استعراضات إعلامية، وبغال الثقافة فيها تجرّ عربة الإعلام وليس العكس، لهذا على الناي في أقصى عزلته وشجنه أن يبتعد ما استطاع عن الطبول، فهي صاخبة لأنها جوفاء وإن كان رأس دبوس حتى لو كان يعلوه الصدأ بمقدوره أن يخرسها!
لقد كانت القطعنة على الدوام بحثا عن الأمان بسبب فائض الخوف، لكن المشهد الذي يختبرها عندما تهاجم يفتضح مشروعها برمّته، وبإمكان أي شخص أن يشاهد أفلاما في القنوات الفضائية المخصصة لعالم الحيوان وصراع البقاء ليرى بنفسه كيف يفر القطيع وقد يصاب بالعمى ويرتطم ببعضه إذا تعرض أحد أفراده لقضم عجيزته.
ولحسن الحظ فإن هناك غرابيل سواء كانت من طراز غربال ميخائيل نعيمة النقدي، الذي يفرز القمح من الزؤان، أو من طراز غربال الروح لجلال الدين الرومي، وظيفة هذه الغرابيل في النهاية أن تنصف الفرد الذي يرى بعينيه ويسمع بأذنيه وينطق بلسانه فقط، مقابل قطيع يثغو أو يموء ويلتصق ببعضه في السراء، لكنه يلوذ بالفرار على طريقة انجُ سعد فقد هلك سعيد إذا جاءت الضرّاء!
_______
*القدس العربي