رَسَمَ نهرًا وغرق فيه


*باسل الزين


غريب
أشتمُّ رائحةٓ موتٍ قريبٍ
يتسرّب من مسامات ذاكرة
وأرى جنازةً قادمة
ثمة متشرّد أضاع الدرب إلى قلبه
وفجر التبس في مرايا الضباب
غريب يُسدِلُ عيني مٓيْت
ويهمس في أذنه بكلمات مبهمة
أم مفجوعة
ترقص فوق قبرٍ مهجور
وأب يورث ما أودعته الأيام للريح
وإخوة يتقاسمون زوجة القتيل
أسفل الدكّة التي اغتسل عليها
خراب
طينة هذا الزمن خراب
وحده الميت يطوف ليلًا
في خاطر كلّ من عبروه واقتسموه ورقصوا فوق جثته
ليطلب الصّفح
عن عزاء تأخر
ولا عجب
فهذا الميت
كان أناي!!!
ماذا لو رَحَلْت؟
هذيانٌ على بوّابة الجسد
قيءٌ وهُزال
وأطرافٌ ترجّ في صقيع الوحدة
كلّ ترجّل عن فرسه
في صحراء أعماري القاحلات
ومضى يقصد جهة ما
في غربتي البعيدة
أنا ذاك الموتور
والقتيل
لن يَمشي في جنازتي
سوى الرّيح
وشيء من وريقات الضّجر
فعجبًا كيف صدق وعدُ الخراب فيَّ
وكَذِبْت
تالِهٌ
خلف كلّ ما تغيّض من دمعٍ لم يُبَح
جمجمةُ الأيّام
صلبة
والوقت عيونٌ مفقوءةٌ
تتسلّل منها
ديدان السّنين الخاليات
فماذا لو رحلت؟
لا شيء ليتغيّر
تحت قوس الغياب
بل إنّ أحدًا
في غمرة الضّحكات
والصّداقات الّتي تحوّفت
لن يُلقيَ بالاً
بأنشوطةِ عمرٍ
صار انحلالها يسيرًا
بين يديه…
أنا القــادم من مــدن الصّراخ العتيق
أُفلّي رأس الأيام
من قمل الفرح الهجين
لا أُبدِرُ إلاّ في الحزن
غلّتي من حصاد اليأس
تكفي
لكي لا أخون موتي
فهلمّ يا صاحِ
فصِّل مقاسات الوجع
أنيقة
كاسمي
في مقامات البكاء
هلمّ…
دعني أترع هذي الكأس مرة
أنا الميت
لكن ينقصني الجنّاز
طريح الرؤى
أهذي بصور الموتى
وفي الهزيع الأخير
من نفق أيامي الباليات
أُبصرُ أبي
يشيح ببصره عنّي
ويشير إلى جهة في الحزن
ناقصة!
في اليوم السّابع من هاويتي!
اليوم الأوّل
اِطرحيهِ
لا تلديهِ
كفى به شقاءً
أن يبحث في أحشائك عن وحدته
ويلتفُّ
كما العنقُ
في جوفِ مقبرة…
هو الآن يرى
كلّ شيء يرى
جُرمٌ غريب
يقرعُ بيديهِ
طبل كينونته المنتفخ
ويسترق السّمع إلى ما تناهى
من صدى العابرين خلفه
في الضّفة الأخرى
من الوجود الضّحل
جرمٌ غريب
أراد أن يُحاكم العالم
جنينًا!
هكذا تكلّم أبي في سرّه
يومها بكت أمّي
بكت كثيرًا
وأنجبتني!
اليوم الثّاني
حزنٌ تلبّسه
لا يطرده إلاّ كاهن الضّوء
كفراشةٍ منزويةٍ
في ركن قنديلٍ مهملٍ
راح يُنقّب تحت جلد العالم
عن وجهه
اليوم الثّالث
رسم نهرًا
وغرق فيه
صدّق الأشكال
ابتكرَ محوًا
وغاب!
اليوم الرّابع
مساحاتٌ شاسعة من الأحلام
ووردٌ ضيّق
حبٌّ
وعشر قصائدَ سانحات
شجرٌ عتيق
حطّ عليه سنونوّ الضّجر
كان كلّما ارتحلَ عاد
ليُكملَ جُرحًا
في وجع الخريف
اليوم الخامس
العابرون أخلصُ من ظلّه
لكنّهم حين ارتووا
من بئر حكمته
ألقوه فيها
واستعادوا الحجر!
اليوم السّادس
بلا أبٍ
أمسى يتّكئُ على جسده
ليصعد سلالم الرّيح
هنا قبرٌ نصفُ مغلق
يستريح فيه
في الطّريق نحو أبيه
اليوم السّابع
في اليوم السّابع من هاويتي
ركنتُ إلى الياء المُضافة
في اسمي
فكلّ هذا الغياب يكفي
لأُصدّقَ انكساري
ولأعرف
أنّ بكاء أمّي
في تالد العمر
صرخةٌ كتومة
لأنّها لم تنجح في طرحي
فنجوت!
_____
*السفير الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *