سوبرمان


د. ابتهال عبدالعزيز الخطيب


تعيد الأحداث مراراً وتكراراً إثبات أننا من أواخر شعوب العالم التـــي لا تزال في كل لحظــــة من لحظات زمنها وتاريخها تنتظـــر المخلـــص، تنتظر البطل الأوحد الذي يأتي لينتشـــلها من الفشــل والضــياع، يرفع عنها ظلم الآخـــرين، يحقق لها النصر الأضخم والأخير، فبالمعجـــزات والقوى الخارقة فوق الطبيعية، سينهي البطل الكرب ويحقق العدل، وينزل الستار على دنيا فاضلة هي نموذج للكمال البشري، هذا طبعاً من وجهة نظر المخَلصين، المنقَذين المنتظرين. 
ولقد اعتمد البشر جميعاً منذ بدايات قيام حضاراتهم على فكرة الخلاص، فمنبع هذه الفكرة الديني كان مزروعاً في معظم إنْ لم يكن كل الحضارات البشرية، حيث اعتمدوا في تشكيل مستقبلهم بشكل كبير على فكرة القدوم هذه وساروا نحو هذا المستقبل بخطى وئيدة، أحياناً متكاسلة، بانتظار هذا المخلص، فلا جدوى من الجري والمحاولة والاجتهاد إذا ما كان هناك شخص، دوماً رجل، سيأتي في النهاية ويرفع المظالم. وهكذا انتظرت البشرية وانتظرت، إلى أن اتضح مع إقبال الحضارات الحديثة أن الانتظار لربما لا طائل كبيرا منه، لابد من محاولة تحقيق شيء من العدل، لابد من إيجاد سبل اتفاق تجعل التعايش ممكناً عوضاً عن الصراعات المريرة التي خاضتها المجتمعات، كلُ دفاعاً عن فكرة مخلصها، إبان انتظارها المتكاسل وتمسكها «بالحق المطلق» الذي أقعدها عن أي محاولة تفاهم. 
تخطت الكثير من المجتمعات هذه الفكرة اليوم، ففي حين أن فكرة المخلص بقيت مزروعة في الوعي البشري، إلا أن المجتمعات المتقدمة وضعت الفكرة جانباً بعد أن تبدى لها أن الانتظار لن يجدي، الانتظار لن يقيها الحروب ولن يحقق لها العدل.
عندها بدأت الفلسفات والأيديولوجيات الحديثة في الظهور لتنظم العلاقات البشرية على أساس من احترام الآخر والتخلي ولو بعض الشيء عن فكرة الحق المطلق، جاء الفكر الحديث ليؤكد أن الخلاص لن يكون في انتظار المعجزات أو المخلصين، ولكنه يتحقق بالعمل الدؤوب اليومي، وهو لن يتجلى بالعراك وإسالة الدماء، ولكن بمحاولة الاتفاق على أننا لا يمكن أن نتفق، وبتعميق فكرة أن الدين لله والوطن للجميع، وأن الوطن لأصحابه ولكن الأرض للبشرية، لا يمكن فصل جغرافيتها ولا يمكن عزل الأضرار التي تحدث لبشر عن غيرهم.
وهكذا، ومع مرور الزمن، ذابت فكرة المخلص البطل الأسطوري الإعجازي وحلت محلها صورة الإنسان العادي المجتهد المناضل، الذي يحترم حريات الآخرين، والمتواضع الذي يتفهم أنه لا يمكن له، في أي حال من الأحوال، أن يمتلك الحق المطلق.
إلا نحن، لا زلنا في أوسط شرقنا المنكوب نخوض في طين الخلاص الذي يجمــــدنا في أماكننا، لا زلنا ننتظــر البطــــل، الفارس الذي سيحقق العدل النهائي في الدنيا، فينزل ستارها، كما في الأفلام العربية القديمة، على نهاية سعيدة لقصة أصبح تمامها في غاية من الكمال. ولأن هذه الفكرة يضرب عمقها في ضمائرنا، فقد أصبحت مغروسة في كل شؤون حياتنا.
نحن دوماً ننتظر، وما أن يظهر شخص ما، عادة رجل كذلك، ببوادر قيادة وبمظاهر قوة، حتى نعليه ونقدسه، نسبغ عليه صفات الكمال والجلال، ننفخ في أناه وذاته، حتى يتورم بالون ثقته، فيرتفع في الهواء، ويرتفع ويرتفع، ثم ينفجر ملقياً بكل مخلفاته فوق رؤوسنا. هي قصتنا منذ زمن قديم، تدور وتتكرر فلا تنتهي. ففي أثناء انتظارنا للمخلص الأخير المرسل من السماء، صنعنا نحن عبر تاريخنا أبطالا قلبناهم مع الوقت إلى أشرار، إلى ديكتاتوريين، إلى مجانين سلطة، نحن من صاغهم، نحن من غذى ورم الأنا عندهم، حتى تفرعنوا وتسرطنوا وانتشروا في عروق حيواتنا بلا أمل في إزالة أو استئصال سوى بعمليات خطيرة دموية عسيرة. 
الأمثلة أكثر من أن تحصى، وأكبر من أن تذكر، وأخطر من أن تسمى، كانوا ولا يزالون، لربما كلنا نعرفهم، فهم صنيعتنا ونحن خالقيهم. كلهم يتشابهون، بعد فترة يصبح خطابهم واحد، أداؤهم واحد، حتى أشكالهم تصبح متشابهة.
لربما الكثــيرون منهم يبــدأون بنوايا حسنة وبمبادئ ومثل حقيقية، ونأتي نحن، وبكل عزم وإصرار، فنحولهم إلى هذا البطل المطلق، نرى فيهم المخلص الأخير، نشبع أشواقنا للمنقذ النهائي في شخوصهم، فنكبرهم ونرسخ في وعيهم أنهم آلهتنا على الأرض، نقنعهم أنهم عظماء مطاعون، فتتحول نفوسهم الطيبة، إنْ كانت، إلى نفوس طاغية، يصدقون القصة، ويتقمصون الدور، ومن هنا تبدأ النهاية. البدايات ذاتها والنهايات ذاتها، ونحن لا نتعلم ولا نتعظ.
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *