طَحن


*عبد الحليم أبو دقر


خاص ( ثقافات )
حضرت فردوس ابنة جيراننا إلى البنك، ألقت خطابا قصيرا تدافع فيه عني مطلعه: “إن هذا الذي تريدون طحنه ليس شخصا عاديا، إنه مصباح ..”. وختمت خطابها: “..لن أسمح لكم بطحنه ..لن ..”. لكنهم لم يصغوا إليها .. 
حتى الرسالة التي كتبتُها إلى رئيس مجلس الإدارة لم تجدِ نفعا، كانت مثار سخريتهم، قالوا إنها عاطفة جميلة ليست في مكانها.. إلى أن عثرتْ على مكانها في سلة المهملات.
رأيت والدي في البنك يوقف كل إجراءاتهم ضدي بإشارة من يده إلى المدير، ويغادر دون أن أتمكن من اللحاق به..
كانت فردوس تردد: أبوك متوفٍ يا مصباح، وهم لا يقيمون اعتبارا لتعامله الطويل معهم، لن يخدعوك من جديد، احذر، لا تصدق أنهم لن يطحنوك. 
أعطوني شهرا. رمى المدير الطويل المنفوخ ملفي اللوزي اللون على الطاولة الضيقة أمام السكرتيرة النحيلة السمراء : أدخليه حتى أوقعه . قال لي: “هذه آخر مهلة، بعدها..” ، ولوح لي بيديه الطويلتين. 
قلت له: “لن أفعل شيئا في شهر حتى لو كنت .. لن ..”. قاطعني : “كان هنا في مكانك قبل قليل رجل سمين طويل طلب مهلة أسبوع، رفضتُ، انهار في البكاء مثل طفل فقد كل أهله. أمرتهم بالتنفيذ عليه.
خرجت من عنده، هبطتُ الدرج السكري الرخامي وأنا أقول : فردوس قادرة على إقناع أمها أن تجعلني ساحرا، فردوس قادرة على إخراجي من كل ما أنا فيه ، لتظهر فردوس الآن وأنا موافق على كل شروطها التي كنت أرفضها.
وقفت أمام البوابة النحاسية الضخمة للبنك العربي بجانب كشك الثقافة لبيع الكتب والصحف والمجلات، كانت الناس متجمعة على الكنافة عند “حبيبة” في الزقاق النافذ إلى سوق الذهب ، عدد كبير من عناصر الشرطة يقفون أمام “مركز أمن المدينة” في الجهة المقابلة، اقتربت منا مظاهرة قادمة من “جبل عمان”، تعالت هتافات المتظاهرين.. قال أحد الأشخاص الواقفين أمام كشك الكتب: لن يسمحوا لهم بالوصول إلى الجامع الحسيني ليعتصموا هناك.
ضجّت كل المنطقة بقوات الأمن.. رأيت في المظاهرة الآنسة منى مدرسة اللغة العربية، مربية الصف. واضح أنها تخلصت من الأستاذ زيد، ما كان يسمح لها أن تشارك في مظاهرة… كانت الآنسة منى تهتف : اطحنونا، اطحنونا…
ظهر والد فردوس بيده صفط كنافة بجانبه أم فردوس، عرفت أنها وافقت على تحويلي لساحر.. 
كان أبو حسن السائق على خط عمان- الشام واقفا في شرفة مقهى” بلاط الرشيد” يصيح: مصباح، تعال اصرخ من هنا حتى يسمعك الجميع.. لا تخجل، تعال اصرخ، لن يطحنوك دون أن تصرخ، اصرخ.. اصرخ..
انهال عناصر الأمن بالهراوات على المتظاهرين ، ركض أحدهم إلى الآنسة منى فكادت أن تهوي إلى الأرض.. نطقتُ بالكلمات المطلوبة، رميت يدي باتجاه الهراوة، وإذا بها تتحول إلى مناديل ملونة تتهادى على رأس الآنسة منى.. انفجرتْ بالضحك، تبلل وجها بالدمع، تلم المناديل عن الأرض، تنده علي: مصباح، تعال.
كانت الهراوات تتطاير مناديل زاهية فوق رؤوس الناس.. ابتسمت لأم فردوس، أردت أن اشكرها، إلا أنها اختفت، واختفى زوجها، واختفت الآنسة منى، واختفى أبو حسن، واختفى الجميع، واحتُلّ المكان بالكامل من أشعة شمس كاوية . 
_______
*قاص أردني 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *