د. علاء مشذوب
في طقس سحري، وداخل دائرة مغلقة تتوسطها نار عمياء، وعلى أصوات قرع الطبول، كانت الأيدي تمسك الرماح والسكاكين بحركات متداخلة والأرجل لا تلامس الأرض حتى تقفز من جديد، والدخان الأبيض المعبأ برائحة البخور يتصاعد، صرخت الساحرة بصوت عال، أوقفت الحركات وحجرت الأجساد اماكنها، أشارت الساحرة الى قرد داخل قفص، جيء به محمولا مقيد الأيدي والأرجل من خلاف، بسرعة غير متوقعة أمرَّت السكين المحمي بلون الجمر على رقبته ففصلت رأسه عن جسمه، فار الدم من جسمه بعد ان رمي على جنب وبقايا الروح تنحسر منه، أمسكت الساحرة رأس القرد ومن ثم أخرجت لسانه وقطعته من أساسه، قربته من نهدها الأيسر ورشحت بعض قطرات حليبها، صرخت من جديد، فعاد الشباب يرقصون من جديد بأصوات غير مفهومة.
تطايرت بعض الطيور التي حطت على أغصان متدلية في اتجاهات مختلفة، أدخلت سيخ حديد في بطن اللسان وقربته من الجمر الملتهب، بعد أن وضعت بعض الخشب اليابس، قلبت السيخ على أكثر من وجه وكان لسان القرد يتلوى مستشيطا على النار الحمراء المزرقة والأصوات لا تألو جهدا بالصياح، والأجساد لا تدخر قوة، صرخت الساحرة من جديد فسكتت القلائد التي كانت تطوق أعناق الشباب وهي تحمل خرزا وتمائم وأنيابا وبعض بذور لنباتات غير معروفة.
أشارت الى المرأة التي كانت مقيدة الى جذع شجرة يابسة، جيء بها وأُجْلست قربها، ووجهها يتلبسه خليط من الخوف والحياء من الارتباك والجرأة، أعطتها الساحرة سيخ الحديد الذي يتوسطه لسان القرد، نظرت الى وجوه الشباب وأجسادهم الراقصة يابسة مثل جذوع نخيل محروقة، والشعر يلتف على ذاته كأنه حبات عنب أسود، الوجوه لا تختلف عن بعضها كثيراً، فالشفاه منتفخة ومتدلية، فتحتا الأنف أكثر سعة كي تسحب أكبر كمية من الهواء نتيجة الرطوبة التي تعم المكان، العيون جاحظة تكاد تسقط من محاجيرها، وكأن مرض السكر أصاب الجميع، الصدور عارية دون شعر وكأنها صحراء عارية من أي نبات.
كان الجميع يرتدي إزارا يشبه في ألوانه الأشجار التي تحيط بالمكان، البطون ضامرة من أية بدانة في مثل هذه الأماكن، الشبع لا ينتج أي انتفاخ بل الى العمل الزائد، وربما لا يوجد شبع فيها، الأفخاذ صلبة فاحمة قوية تتحمل قطع المسافات، والجلد في الصعود على الأشجار الباسقة، أو الهبوط في الوديان، أو الهرب من وحش ضار، أو الإقدام على صيد ثمين، ومثلها السيقان التي تشبه بقوتها أغصان شجرة اللبلاب التي ما أن تلتف حول غصن نبات آخر حتى يصعب إفلاتها، أما الأقدام فعارية وعريضة تفترش الأرض التي ترتكز عليها وكأنها اخفاف جمل تحمل أعباء الجسد كله.
تطلعت الشابة في وجوه الشباب وقد أخذ الإعياء منهم مأخذا، بدأت حركاتهم تسكن، وقلوبهم متوجسة، وكل منهم يتمنى أن يكون هو المختار، كان الجميع ينظر الى الفتاة وهي تتنقل بين عيونهم، أعادت النظر إليهم أكثر من مرة حتى وقع اختيارها على أحدهم، وقد أشارت عليه بسيخ الحديد وهو يحمل لسان القرد.
بقي الشاب واقفا بينما نزل الجميع على ركبهم إجلالا لاختيارها لتحييه من موقع أدنى، نهضت الساحرة من مكانها فتبعتها الفتاة، أخذت منها سيخ الحديد وأعطته للشاب بينما بقي لسان القرد بيد الفتاة، أدخل الشاب السيخ في لسان القرد، فوضعت الساحرة يدها اليمنى عليه، ويدها اليسرى على الدخان المتطاير، ثم رفعتها فسحب الشاب السيخ من لسان القرد، أعادت مرة أخرى إدخال السيخ في وسط اللسان وأعادت الساحرة يدها مرة أخرى تكررت العملية أكثر من مرة ليصبح عملية الإدخال والإخراج خمس مرات.
***
اخذت النساء على عاتقهن تجميل الفتاة، وكانت بحوزتهن مجموعة من الإبر المدببة الحادة، أشعلن النار بعد ان وضعن فيها نوعا من نبات الخشخاش الذي خدّر الفتاة وجعلها مسترخية لا تشعر بوخز الإبر الذي بدأ يدق على أطراف من جسدها بعد ان مددت على تخت قد أعد من قبل.
بدأت المرأة الأكبر سناّ برسم وشم تحت سرتها من الجهة اليمنى على شكل ولد وعلى الجهة اليسرى فتاة يربطهما هلال يدور حول السرّة، فالجميع هنا يعتقد ان سبب الإنجاب يكمن في هذا المكان وهو الذي يبعث الحياة من الغذاء في روح الطفل.
بينما أخذت المرأة الأخرى برسم وشم على حلمة الصدر الأيمن على شكل دوائر بالتوازي مع المرأة الأخرى التي بدأت ترسم وشما على حلمة نهدها الأيسر حتى يلتقيا، وتتبع عدد الدوائر حجم نهد الفتاة، فبعضهن يتحمل أكثر من خمس دوائر حتى يلتقيا عند المنتصف، وبعضهن نهودهن كبيرات قد تلتقي عند الدائرة الثالثة.
انتقلت المرأة الأكبر سنا الى حيث أقدام الفتاة، وبدأت برسم وشم يمتد على طول الأصابع وحتى نهاية القدم كونها تعتقد أن هذه الخطوط هي بمثابة جذور تمتد نحو الأرض كي تثبت الفتاة، لكي تكون منجبه، بينما أخذت المرأتان برسم دوائر حول ركبتي الفتاة لتجعلهما أكثر قدرة وتماسكاً عندما تحبل من زوجها.
اتجه الشباب من الذين لم يقع عليهم اختيار الفتاة الى بناء بيت الزوجية للشخص المختار، مثلما اتجهت فتيات القرية الى خياطة ملابس العروس، والفراش، ومتعلقات المطبخ، وأمور البيت الأخرى، أستمر عمل الطرفين لأكثر من شهر.
عندما بدأت طقوس الزفاف، والتي من شروطها أن يُزف العريس على ضفة النهر ومن خلفه أقرانه وهم بين من يحمل الرمح أو المشعل الناري وصولا الى بيت الساحرة التي تضع حول رقبتها قلادة فيها قرص دائري، تمسك بيدها اليسرى غصن شجرة وبيدها اليمنى خنجرا. الأول كي تعطيه للعريس ليهديها لزوجته، والثاني كي تجرح به يد العريس ليقطر دما ملأ كفها لتهبه للنهر كي يبارك زواجه.
أثناء مشي العريس على ضفة النهر والطبول تقرع بشكل سريع فرح، بينما كانت العروس في كوخها تنتظر عريسها، والساحرة منتظرة أمام كوخها ماسكة الخنجر بيد، والغصن بيد أخرى، خرج على غير المتوقع والمحسوب تمساح كبير وبعضة واحدة مسك وسط العريس وسحبه الى المياه، وعبثا راحت محاولات من كان قربه في إنقاذه بعد ان غاص التمساح بفريسته الى وسط النهر.
كان المشهد مروعاً أمام الجميع وقد حصل بثوانٍ لم يلاحظه من كان غافلا عنه، وسم الجميع بوجوم غير طبيعي للمشهد بكل هذه الوحشية، تقدمت الساحرة بعد ان رمت من يدها غصن الشجرة ومسكت الخنجر بيدها اليسرى واستعاضت عنه بعصاها الملتوية كأنها أفعى الكوبرا بفمها المفتوح، وتقدمت نحو المكان الذي حصل فيه المشهد ورمت الخنجر فيه، واستدارت نحو جمهور القرية دون خوف أو وجل من أن يخرج تمساح آخر ويخطفها، قالت: ان تلك العروس وأشارت الى كوخها لن يقربها أحدا من الشباب بعد اليوم فقد تزوجت التمساح.
_______
المدى