*بسمة النسور
كل ما يفصلها عن عمّان العاصمة بضعة كيلومترات ليس أكثر، غير أن الطريق إليها تبدو لي دائما وكأنها رحلة طويلة غير شاقة عبر الزمان، باتجاه ماضٍ غامضٍ وقصيٍّ غابت ملامحه بالكامل من ذاكرة الشوارع والأمكنة التي أصبحت، في حاضرنا هذا، شديدة الحياد، منزوعة الذاكرة، شديدة التشابه، فصار الماضي الذي أنتسب حنينا إليه بمثابة سراب مضلّل، مثل كذبة محكمةٍ، تواطأنا على سردها حتى صدّقناها من فرط التكرار.
كأن تلك الأيام الخاليات، والحافلة بالصخب والدهشة، ما دارت سوى في مخيلاتنا، على الرغم من أنها ظلت راسخة في الروح، توقاً لرجع زمنٍ فائق العذوبة والدفء، بذلك الحضور الأخّاذ في الحكايات المرتجعة التي ما سئمنا قط تكرارها، في محاولاتٍ للتشبث بتلك اللحظات الهاربة إلى حماقات الطفولة برصيدها المتنوّع، وجعبة الذكريات لا تنضب من ذلك الحقل المزروع أبداً بالحنين.
أتحدث عن مكاني الأول، مدينتي الزرقاء، من أهم مدن الأردن وأكثرها كثافةً سكانيةً، النائية، وهي العاتبة علينا، نحن أولادها العصاة الذين جحدناها، بعد أن كانت الحضن الحيوي الغامر بالأمان الذي نجم عنه ظهور عدد كبير من مبدعي الأردن ومثقفيه. لم يكن ذلك من قبيل المصادفة، بل نتاجاً طبيعياً لحالة اجتماعية متقدمة لمدينةٍ كانت مثالاً في التعايش الحضاري بين نماذج إنسانية تنتمي إلى خلفياتٍ شديدة التباين.
كان الإقرار بالآخر وحقه بالاختلاف واحترام مفردات ثقافته العنوان الأكثر سطوعاً لشبكة العلاقات الإنسانية التي تصدّرتها على الدوام علاقات الجوار كقيمة أساسية. إنها الزرقاء، مدينتنا المرتجلة منذ البدء، المتشكلة، كما الحكايات في الأساطير، من ذرات غبارٍ تجمعت في بطن صحراء لا تيه فيها، فصارت أزقةً وبيوتاً وسناسل وحارات وحواكير، وأصوات باعة، وشجارات صبية، وشباناً نزقين يموتون غيرةً عند ظهور الصبايا في الشارع، فيتحفّزون للنيْل ممّن يجرؤ من الغرباء على إبداء إعجابه بهن، غير أن ذلك لم يحل يوماً دون تدفق قصص الحب، وظهور عشاق مجانين، مستعدين لتلقي اللكمات مقابل الظفر برؤية الحبيبات على أسطح البيوت الإسمنتية، متظاهرات بالانهماك في الدراسة، فيما هن غارقات في تلقف إشارات الشوق، ترفُّ لهفةً بالفضاء، فتصير الأشياء كلها أكثر إشراقاً من شمسٍ على وشك البزوغ.
في ذلك الزمن، كنا نصحو على وقع بساطير الآباء الذاهبين إلى المعسكرات، قبيل طلوع الضوء، بمحاذاة الفجر، وأحيانا قبله بكثير، مخلّفين صغارهم في عهدة أمهاتٍ طاولن المستحيل، وتغلبن عليه مراراً، صانعات المعجزات اليومية الصغيرة التي أحالت طفولتنا إلى مهرجان بهجةٍ دائم.
لم نكن ندرك، آنذاك، كم كانت أمهاتنا جميلاتٍ ويافعاتٍ ومتعباتٍ، لأنهن ما خذلننا يوما، ووفّرن لنا ما أمكن من وسائل الفرح التي لم تكلف أكثر من مشوار نقطعه سيراً على الأقدام إلى ضفاف سيل الزرقاء، حيث الماء والخضرة وراحة البال والتبولة مجبولة بأيديهن المباركات.
وحين يتوفر الآباء في البيوت على سبيل التغيير، ننطلق صوب بساتين بلدة الرصيفة المكتظة بأشجار المشمش المزهرة ومنتزهاتها التي كانت، في زمن بهيٍّ ما، قبلة الأردنيين وزائري المملكة، وإلى برك قرية السخنة، حيث الطبيعة لم تكن لفظت أنفاسها بعد. وتظل حاضرةً في البال تلك النكهة الفذّة لمذاق التوق الجارف، حيث موعد اصطحابنا إلى السينما، وسط احتجاج جدّاتنا الحموات الساخطات على أساليب تربية غير صارمة، ودائما مزودين بالمناديل الورقية، لمواجهة الأحزان المقبلة في الفيلم الهندي المرتقب، حيث البطل العاشق تائه عن عائلته، متعرّض لسائر صنوف الهوان، ولسبب غير مفهوم لا يكف عن الغناء والرقص، طوال أحداث الفيلم الذي سوف ينتهي بلم شمل العائلة وزواج الحبيبين.
نغادر مساءً إلى البيوت، منهكين من شدة الانفعال، ننتظر بزوغ يومٍ جديدٍ، ونتخيّل أن الحياة ستظل هكذا إلى الأبد. ولأننا كبرنا وتمادينا في الكبر، أصبحنا ندرك كم كانت أوهامنا خادعةً وجميلة، غير أننا لن نتوانى يوماً عن الشوق والحنين والأسى على كل ما مضى من أفراح.
________
*العربي الجديد