*لطفية الدليمي
القسم الثاني: فانتازيات ويلز الكئيبة ومستقبليات فيرن الثورية
ليس هناك من تأريخ محدّد متفق عليه يؤشر بدايات رواية الخيال العلمي ، ويمكن تتبّع آثار هذه الرواية في أعمال أدبية وفكرية عديدة مثل رواية يوتوبيا التي كتبها “توماس مور” عام 1516 والتي يحكي فيها عن جماعة بشرية في مجتمع مُتخيّل ، وكذلك رواية “فرانكنشتاين” التي كتبتها ماري شيلي عام 1818 إلى جانب بعض الروايات التي كتبها كلّ من “إدغار آلان بو” و “سيرانو دي برجراك” ، ولكن المتفق عليه أنّ الانطلاقة المؤكدة لهذا اللون الروائي بدأت مع روايات “جول فيرن” التي امتازت بفنتازيتها الصارخة وتخييلها العلمي – الذي عدّ ثورة في المخيال السائد آنذاك – إلى جانب ارتكازها على حقائق علمية راسخة منحت تلك الأعمال نوعاً من قدرة نبوئية مغلفة بنكهة تفاؤلية تشي بنوع الحياة البشرية المستقبلية التي سيجترح فيها العلم وتطبيقاته أعاجيب هي أقرب إلى السحر بمقاييس منتصف القرن التاسع عشر . يُلاحظ في أعمال فيرن أنها كانت أقرب ماتكون إلى وثائق علمية شبيهة بأدبيات ( علم المستقبليات ) السائدة في وقتنا هذا ؛ فقد اكتفى الرجل بالتبشير بعظمة العصر الآتي وفتنة التطبيقات العلمية وقدرتها على بلوغ آفاق بعيدة .
يُعدّ “هربرت جورج ويلز” أحد الآباء المؤسسين لجنس رواية الخيال العلمي وغالباً ماينظر إليه باعتباره “شكسبير” هذا اللون الأدبي ، ويختلف ويلز عن فيرن بأنه ضمّن رواياته تفاصيل إنسانية وفلسفية وسياسية ولم يغفل عن “البعد الاجتماعي” للعلم والتطبيقات العلمية ، كما أن ثقته في العلم وإن كانت عظيمة غير أنه لم يكن يتحدث بتلك الروح الثورية غير المقيدة التي تحدث بها فيرن ، وربّما يعود منشأ هذا الاختلاف إلى شيء من المزاج الكئيب الذي عاناه ويلز في بواكير حياته وتفاقم لاحقاً في سنوات حياته المتقدمة ، ويمكن ملاحظة ملامح من هذا المزاج “الويلزي” مثلاً في افتتاحية عمله المسمّى ( النائم يستيقظ ) حيث يقول : “المدينة الكبيرة التي تصفها هذه الرواية ليست سوى كابوس انتصار الرأسمالية !!” ، ويبدو مزاجه أكثر وضوحاً في هذا المقطع من خاتمة روايته ذائعة الصيت ( حرب العوالم ) حيث يكتب : “ليس مستحيلاً – ضمن الهدف النهائي والشامل للكون – أن يكون الغزو المريخي للأرض ذا فائدة للبشر لأنه سينزع عنهم هذه الثقة المشرقة والحاسمة بالمستقبل والتي تعد السبب المؤكّد لكل رثاثة بشرية ..” .
شكّلت نهاية الحرب العالمية الأولى مفصلاً حاسماً ونوعياً في طبيعة موضوعات رواية الخيال العلمي ؛ إذ لم تعد هذه الرواية محض دعاية تبشيرية بالقدرات الثورية للعلم وتطبيقاته وإنما راحت تتوغل أكثر فأكثر في استقصاء أغوار العقل البشري والنفس الإنسانية بعد الدمار الهائل الذي أحدثته الحرب ، ويمكن ملاحظة حصول انزياح في موضوعات هذه الرواية من التخييل الفنتازي ( آلات طائرة ، سفر بين الكواكب ، غواصات تصل أعماق المحيطات ، انتقال لحظي للأجسام عبر الزمان والمكان ) – التخييل الذي يتجسّد في هيئة تخليقات تقنية جبارة وصار التركيز على الجزئيات العلمية ذات الطبيعة المفاهيمية وتأثيرها في فهم السايكولوجيا البشرية والفلسفة العلمية في ضوء التطورات الثورية التي جاءت بها الفيزياء الحديثة وبخاصة في حقل ميكانيك الكم والفيزياء النسبية التي قلبت مفاهيمنا بشأن الزمان والمكان والطاقة.
يتبع
_______
*المدى