*أمير تاج السر
كتب لي مرة أحد الأصدقاء يتساءل عن كم الذكريات التي يمكن أن تسعها الذاكرة الصحيحة للكتاب والمبدعين، أي تلك التي ما تزال تعمل بلا خرف، ولا توهان، لإمكانية استعادتها في المستقبل في أعمال إبداعية.
الحقيقة، كان السؤال جيدا إلى حد ما، وجديدا، لم يطرح في أي حوار من تلك المكررة التي تجرى يوميا، مع الذين يكتبون، وقطعا يعتمد المبدع عامة على ذاكرته كثيرا أثناء الكتابة، وليس هذا معناه أن الأمر مقصور على السيرة الذاتية المبنية على وقائع حقيقية، عاشها الكاتب ذات يوم وأراد توثيقها، بغض النظر إن كانت تهم أحدا من القراء أم لا، ولكن تلك المواقف المتنوعة التي تمر بالكاتب أثناء حياته اليومية، وربما تصلح لتوظف في عمل روائي فيه شيء من الواقع وشيء من الخيال، إن استعادها الكاتب ذات يوم.
أنا شخصيا أعتقد أن المبدع عموما، مؤهل أكثر من غيره من الناس لالتقاط المواقف، وتدوينها في الذاكرة. هناك مواقف تمر بجميع الناس بالطبع، مواقف جيدة وغير جيدة، لكنها ما تلبث أن تختفي من الذاكرة، في أقرب فرصة ملائمة، لكن في الغالب لا تختفي تماما من ذاكرة المبدع، ويمكن جدا أن تضاف إليها تفاصيل أخرى لم يلحظها الشخص العادي. فحين يدفنون ميتا عزيزا مثلا، ينشغل الناس بالبكاء أو التحسر عليه، وفي الغالب لا تنطبع من مسيرة تشييعه أي ذكرى هامة، يمكن أن تعود لأحد، فقط ينتبه المبدع الذي ربما يسير مع الناس خلف النعش، إلى ملامح المعزين أنفسهم، وإلى مزع صغير، ربما يكون في قماش الكفن، وإلى أصوات غاضبة وأخرى ضاحكة، ربما تنطلق في تلك اللحظات، وأيضا إلى الدموع التي قد تكون سالت على خد أحد وأزالها على الفور.
هذه قد تبدو ذكريات عادية وبلا حافز، لكن حين يكتب المبدع نصا فيه فَقْد فيما بعد، قطعا سيتذكر كل تلك الأشياء ويستعيدها، ويضيف إليها أيضا، وقد شهدت وأنا طفل أثناء وجودنا في القرية في شمال السودان، في عطلة صيفية، جنازة لإحدى قريباتي، كانت ماتت من مرض غامض. كانت في الجنازة مواقف متباينة، تراوحت بين البكاء، والصمت، والثرثرة الضاجة، وثمة جد مسن غاضب، يحاول أن يمنع النساء من الصياح. كان ذلك منذ زمن طويل، لكن ظلت تلك المسيرة الحزينة، خامتي الوحيدة، التي أستند إليها كلما كتبت مشهدا باكيا أو فيه فقد، في نص من نصوصي، بالرغم من أنني شهدت مئات الأحزان بعد ذلك.
بالنسبة لطقوس الزواج أيضا، يحدث فيها نفس الشيء، سيأتي مغن جميل الصوت أو ربما بلا صوت على الإطلاق، ليغني ويعيد الغناء، ستأتي فتيات رشيقات، ليرقصن، وشباب مستهترون، ليشاركوا في اللهو الراقص ويذهبوا. قد تحدث مشادة ما، قد يصيح أحد، قد تتعثر إحدى الفتيات الراقصات فجأة وتسقط، وقد تتعرض أخرى لتحرش من مخمور، وتنتهي كل تلك الأشياء بانتهاء العرس لكنها تبقى في ذاكرة مبدع، كان موجودا في تلك الفرحة، أو يتحاوم حولها، أو استطاع التقاط كثير من المعطيات وتخزينها، بلا وعي منه. وأعتقد أن الذين كتبوا تراث بلدانهم، وثقافتها المحلية، في أعمال روائية عظيمة، لم يكتبوها بناء على قراءتها في الكتب أو سماعها مصادفة، من أشخاص آخرين ولكن عاصروها بأنفسهم، والتقطوها وخزنوها في الذاكرات المبدعة، لتأتي لاحقا في تلك النصوص. ودائما ما تحضرني حين أتذكر تراث الشعوب، رواية «الشمندورة»، وهي رواية يتيمة عن منطقة النوبة في جنوب مصر، كتبها الراحل محمد خليل قاسم، ولم يزد عليها، وكانت بالفعل عملا غنيا عن تراث أولئك القاطنين في آخر صعيد مصرـ لهم عاداتهم وتقاليدهم وتراثهم الحر، في المناسبات المفرحة والمحزنة على حد سواء. وكنت زرت مدينة أسوان مرة، وشاهدت ما طالعته في «الشمندورة»، موجودا منه شيء إضافة إلى اللمسات العصرية التي طالت كل شيء حتى تراث المجتمعات المحافظة، ولولا الذاكرة الإبداعية التي تسعف الكتابة، في اعتقادي، لما عرفنا أدق التفاصيل عن التقاليد المختلفة، لشعوب الأرض.
بالقدر نفسه، تستطيع الذاكرة الإبداعية أن تولد مشاهد متخيلة، أو تزيد على مشاهد حقيقية قديمة، وتعيد إنتاجها في المستقبل بأي صورة من الصور. وأعتقد أن ذلك ينصب على الشعر والرسم، مثلما ينطبق على السرد، فقط دائما لدى السرد طاقة كبيرة، في رسم الحياة أكثر من غيره من ضروب الإبداع، ويمكن أن يحتوي شعرا ومسرحا، ولوحات مرسومة حتى.
لكن، هل تعمل ذاكرة المبدع دائما بطاقتها الكاملة، في أي وقت وتأتي بالذكريات المخزنة هكذا؟
بمعنى إن أراد كاتب ما أن يؤلف رواية عن الموسيقى مثلا، هل تمنحه الذاكرة كل ما خزنته عن الموسيقى طواعية بلا جهد؟ وإن أراد الكتابة عن القرية التي ولد فيها، وهاجر منها بعد ذلك، هل تأتيه القرية بماضيها القديم، وتمنحه النص؟
لا أعتقد حقيقة، فلكي يحدث ذلك، لا بد من تدريب مستمر، وعنيف للذاكرة، في كل فرصة سانحة، تماما مثلما تمرن عضلات الجسم المختلفة، بالمشي ورفع الأثقال وغيرهما من الرياضات المختلفة، ليستطيع الشخص الاعتماد عليها عند الضرورة، مثل أن يحتاجها في الصعود على درج عال، أو تسلق تل مرتفع. الذاكرة تحتاج لذلك التدريب، ولا بأس أن يجلس المبدع في لحظات استرخائه، وخلو ذهنه من المشاغل، ليستعيد مشاهد بعيدة، قد تبدو له غائمة في البداية، لكن بتكرار استعادتها، تتضح الرؤية شيئا فشيئا، حتى تتجسد بلا ضباب. فعل الختان لطفل في الخامسة أو السادسة من عمره، ليس فعلا يوميا متكررا، تصعب استعادته، وكتابته بتشف في نص قد يحتاج إليه. فعل هجر الحبيبة الأولى، تحت أي ظرف، ليس فعلا تصعب استعادته أيضا، لكن لون الملابس التي كان يرتديها مدير المدرسة الابتدائية، مثلا، في أول يوم دخل فيه التلميذ المدرسة، صعب استعادته، حتى لو تمت استعادة اسم المدير. وقد تعودت شخصيا أن أنغرس في أيام بعيدة، كلما كنت مسترخيا، أستعيد مشاهد عادية جدا، مررت بها ذات يوم، وأحس بسعادة كبيرة كلما استطعت أن أرسم وجها كاد يمحى، واستعيد صاحبه بكل خصائصه، كأنه موجود معي دائما، وهناك أشخاص لم أسمح لهم أن يغيبوا أبدا عن الذاكرة، ذلك أن المحبة كانت تصدرهم إلى التذكر دائما، وربما لا يكون ذلك مهما، لكني سعدت كثيرا، حين استعدت اسم بائع الحليب الذي كان يطرق باب بيتنا، وأنا أقف أمام حطام البيت، منذ ثلاثة أشهر في مدينة بورتسودان الساحلية.
وقد سألت أحد الزملاء، وكان أعجبني رسمه لشخصية فتاة صغيرة، وذكية في نحو الخامسة، ترتدي ملابس بألوان زاهية دائما، وتقلد الكبار في كل شيء، سألته إن كان يعرف فتاة بهذه المواصفات فعلا، فرد بأنها أخته التي ماتت منذ خمسين عاما وكان يكبرها بعامين، لكنه جعلها تحتل أفضل مكان في ذاكرته، ولم يسمح لطيفها بالهروب.
إذن الذاكرة الإبداعية، واسعة وواعية جدا، في خياراتها التي تخزنها وخياراتها التي تستعيدها من التخزين بعد ذلك، فقط قد تنطمس داخلها بعض الصور، إن لم تدرب ويعاد تدريبها بصفة مستمرة.
_________
*القدس العربي