*لطفية الدليمي
القسم الخامس: الرجل الذي تحدث إلى الملائكة
قد يذهب الظنّ بالكثيرين إلى اعتبار رواية الخيال العلمي صناعة غربية خالصة ، ولكن خطل ذلك الظن يتأكد بعد قراءتنا المعمّقة لتراث هذه الرواية والذي نطالع فيه أسماء عديدة لكتّاب من خارج الفضاء الغربيّ ، وسأتوقّف عند واحد من هؤلاء : العالم العبقري والرائد في علوم الفضاء وواضع نظرية الصواريخ النفاثة والسفر بين الكواكب – الروسي قسطنطين تسيولكوفسكي ( 1857- 1935) الذي تجرّأ على الحلم بأشياء لم يجرؤ أحد آخر على التفكير بها. فخلال الحرب العالمية الأولى كان الرجل يحلم بالطيران إلى القمر، والتعديل الوراثي وإحياء الموتى !
نقرأ في سيرة حياة تسيولكوفسكي أن حياته ولِدت من رحم المأساة : فقد أصيب بالحمى القرمزية في وقت مبكر من حياته ، وعانى نتيجة مرضه من مضاعفات سببت له الصمم ؛ لذلك لم يتلقّ تعليماً على النمط السائد . تعلم ذاتياً كيف يقرأ بعمر مبكر جدّاً و أحب أكثر من أي شيء القراءة واختراع الآلات الميكانيكية . كان تسيولكوفسكي يخترع كل يوم تقريباً شيئاً جديداً ؛ إذ خلال فترة قصيرة قام باختراع منطاد وركائز ومكثّف وآلة كاتبة ، وسخان شمسي ، ونظام قياس خاص وحتى أبجدية عالمية .
في الثلاثين من عمره أصبح تسيولكوفسكي كاتباً . كان هذا الأمر
مفاجئاً له : جلس وكتب قصة خيال علمي عن القمر ، والمدهش في الأمر أن القصة كانت تحوي تفاصيل دقيقة كما لو أنه كان هناك فعلاً . لاحقاً ، وعندما كتب غاغارين ملاحظاته عن الفضاء جاءت مشابهة لوصف تسيولكوفسكي نفسه .
تتمحور رؤى تسيولكوفسكي الفلسفية في كتاب مهمّ كتبه عام 1928 بعنوان ( إرادة الكون : الذكاء المجهول ) عرض فيه لفلسفته المتساوقة مع مبدأ الوعي الشامل Panpsychism الذي يرى في الوعي خاصية تشمل كل الموجودات مهما صغرت أو تعاظمت.
قام تسيولكوفسكي بتطوير عديد من الأفكار الثورية السابقة لعصره : قمر صناعي، وصاروخ متعدد المراحل، ومحرك نووي ،،، كما احتسب بالضبط السرعة اللازمة للصاروخ للإفلات من أسر الجاذبية الأرضية نحو مدار حول الفضاء ، واللافت أنه قام بتطوير كل اختراعاته من الصفر ومن دون أي أساس علمي مسبق ، ومن دون أي أمل لتحقيق هذه الاختراعات . كتب مرة وبطريقة نبوئية : ( أنا متأكد من أن السفر بين الكواكب سيصبح واقعاً . سيصنع الأبطال والمغامرون المسارات الجوية الأولى – من الأرض إلى المدار القمري ، من الأرض إلى مدار المريخ ومن ثم إلى المريخ !! .
اعترف تسيولكوفسكي لأحد تلاميذه بأنه يتحدث إلى الملائكة ، وبالنسبة لتسيولكوفسكي كانت الملائكة كائنات عليا متقدمة بشكل كبير عن البشرية . كان يرى أن البشر في المستقبل سيتحولون إلى ملائكة – كناية عن التقدم والارتقاء العلمي ، المترجمة – ولابدّ سيأتي يوم سيندمج فيه النوع البشري مع الكون في تركيبة خالدة ستستحيل طاقة كونية ، وينبغي هنا أن نشير إلى إسهامات تسيولكوفسكي في البيولوجيا وفي أصل الموسيقى وماهيّتها .
بعد وفاته أصبح تسيولكوفسكي معروفاً بأبي الملاحة السوفييتية ؛ فقد ألهمت أفكاره خيال المصمم الكبير “سيرغي كوروليوف” الأب المؤسس لبرنامج الصواريخ واستكشاف الفضاء في الحقبة السوفييتية ، ومن المفروغ منه أن السوفييت كان لهم الكثير من العلماء لكن يبقى تسيولكوفسكي رائداً ورؤيوياً متفرداً في ميدانه وربما الوحيد الذي أمكنه التحدث مع الملائكة بلغتهم الخاصة !! .
يتبع
____
*المدى