*د. حسن مدن
يعتقد الفيلسوف الألماني نيتشه أن مصير الإنسانية جمعاء يتوقف على نظام التغذية أكثر مما يتوقف على أية حذلقة كلامية، أما مواطنه «فيورباخ» فيرى «أن الإنسان ليس إلا ما يأكل». بيد أن ما يذهب إليه نيتشه هو الدعوة إلى «نقد العقل الغذائي» على الطريقة التي يقوم بها الفلاسفة في نقد كل شيء.
وعلى هذه السيرة تحضرني رباعية جميلة لصلاح جاهين عن الفلاسفة تقول: «الفيلسوف قاعد يفكر سيبوه- لا تعلموه سلطان ولا تصلبوه- ما تعرفوش إن الفلاسفة ياهوه – اللي يقولوه بيرجعوا يكدبوه». ولكن الفلسفة دخلت في كل شيء، حتى في الغذاء، وبرأي نيتشه إنه نتيجة الغياب المطلق للعقل داخل المطبخ فقد تعثر تقدم الكائن البشري لمدة طويلة.
خبر قرأته عن الموضوع يذهب مذهباً آخر، حيث يعتقد فريق من العلماء أن الإنسان أكل وجبته المطهوة الأولى قبل 1.9 مليون سنة في إفريقيا، وإن هذه الوجبة كانت مكونة من جذور الخضروات والبقول والحبوب المشوية وقطع من اللحم. وكان هذه الفريق قد عثر على أدلة من العظام والأدوات المصنوعة من قرون الحيوانات لاستخراج الجذور وآثار نيران.
وحسب هذا الفريق فإن هذه الوجبة تُعد بداية حاسمة بسبب تأثيرها على تطور الإنسان، لأن أول وجبة مطهوة قادت إلى ولع النساء تحديداً بالأعمال المنزلية والطهي وإلى حدوث تغييرات بدنية في الرجل من بينها صغر حجم أسنانه ومعدته إلى جانب كبير حجم مخ الإنسان.
الدارسون في علم الإنسان يؤكدون إن الوجود الأول له كان في الغابات، وإنه حينها كان نباتياً يعتمد في طعامه على النبات فقط مثل الجذور والأوراق والبذور والفواكه وما إلى ذلك، وقبل حوالي مليون سنة خرج الإنسان من الغابة إلى السهول ليصبح صياداً، مما جعله محتاجاً لمساعدة الآخرين وتعاونهم للقبض على الفرائس كبيرة الحجم ولذلك نشأت جماعات صيد متعاونة، مما كان له تأثير حاسم على تطور العلاقات لاجتماعية.
وأياً كان الأمر فإن أطروحة «فيورباخ» عن «أن الإنسان ليس إلا ما يأكله» تنطوي على مقدار كبير من الصحة. لأننا في الحقيقة نولي عناية كبيرة بالتغذية، تشير إلى مقدار ما توليه بالنتيجة، من عناية للذات، للجسد.
إن علماً بكامله تطور وتفرع هو علم التغذية يظهر هذا الاهتمام، وثمة شركات متخصصة وخبراء تغذية وتجميل، وشبكة دعاية وإعلانات واسعة توجه اهتمامها الأساسي نحو التغذية، ومن خلالها نحو الجسد نفسه. لنلاحظ أن الإعلانات عن المواد الغذائية أو ذات الصلة بالغذاء تهتم كثيراً بتبديد القلق على «جمال الجسد»، يظهر ذلك، مثلاً، من إصرار المعلنين عن الزيوت على خلوها من الكريستول، أو بإظهار امرأة رشيقة تلتهم وجبة شهية طُهيت بالزيت المعني دون أن تسمن.. الخ.
إن اهتمام الناس بالطريقة التي بها يأكلون، أو ماذا يأكلون، أو متى يأكلون، والحيز الواسع الذي يستغرقه موضوع التغذية في كلامهم وأفعالهم كلها أمور تدلل على مقدار العناية التي نوليها للصورة التي نحرص على أن تظهر بها أبداننا.
بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر عاش في إيطاليا رجل اسمه لويس كونارو كتب عن نفسه كتاباً شرح فيه كيف أنه عندما بلغ الأربعين من عمره أصيب بمرض يئس الأطباء من علاجه، وأنذروه بالموت العاجل، ولكنه لم ييأس ولم يستسلم لأقوال الأطباء وقرر أن يعالج نفسه بنفسه من طائفة من الأمراض والاضطرابات عبر الإقلال من الطعام، حتى أصبح ما يتناوله في اليوم كله لا يتجاوز بضع أوقيات من الطعام، وبهذا العلاج استطاع الرجل الذي أنذره الأطباء بالموت وهو في الأربعين أن يتجاوز المائة من عمره.
وإلى حكاية هذا الرجل عاد سلامة موسى وهو يحض قراءه على النحافة وتجنب السمنة والنهم في الأكل، ملاحظاً العلاقة السببية بين الإقلال من الأكل وطول العمر. كلما اقتصد المرء في أكله، تحاشى الكثير من الأمراض والأسقام، وقدر له بالتالي عيش أطول. يقال إن جميع شركات التأمين التي تنظر من خلال إحصاءاتها إلى أرباحها، وتعرف أن أي خطأ فيها يؤدي إلى خسارتها، ترفض تأمين المترهلين الذين يعانون من السمنة المفرطة. وحسب دراسة لإحدى هذه الشركات فإن زيادة الوزن لأي شخص بعد الخامسة والعشرين مضرة بالصحة، وأن ما يزيد وزنهم بمقدار 20% على المتوسط تزيد نسبة وفياتهم بمقدار 20% وإذا زاد الوزن على 50% فإن الوفيات عندئذ تبلغ ضعفي مقدارها بين المتوسطين.
وهناك دراسة طريفة توقف عندها سلامة موسى تقول: إننا إذا بدأنا بعشرين شخصاً في سن الثلاثين، نصفهم من النحاف والنصف الآخر من السمان، وجدنا أنهم يصلون إلى الأربعين وقد مات من كل من الفريقين واحد، كأن السمن هنا لم يختلف أثره من النحافة، ولكن عندما يبلغ الفريقان الخمسين نجد أن النحاف لا يزالون تسعة، في حين أن السمان قد صاروا ستة، ومن أجل تقريع السمنة يورد الكاتب النقائص التالية التي يعاني منها السمان: سوء الحركة وصعوبة التنقل، لأن الساقين تثقلان، وتضطربان، الارتباك من ضخامة البنية الجسمية وإحساس الخجل من ذلك، نقص النشاط الجسمي والذهني والركود النفسي بسبب ذلك وما ينشأ عنه من قلة الطموح، التهيؤ لأمراض مختلفة لا تصيب النحاف مثل السكتة القلبية وانسداد الشريان التاجي.
من بين عدة نصائح يسوقها الكاتب للحفاظ على النحافة، أو الرشاقة إن شئتم، يورد النصيحة التالية: التأنق مكان النهم في الأكل، وبدت لي فكرة طريفة أن يكون الأكل أنيقاً، كأناقة الشخص أو الغرفة أو المكتب. لم أكن أحسب أن الأكل أيضاً ممكن أن يوصف بالأناقة. أما كيف يكون ذلك: فباختيار الألوان اللذيذة من الأكل، فلا نجعل من الوجبة عملاً مادياً محضاً لملء فراغ المعدة، وهذا التأنق يتحول بمرور السنين عادة فمزاجاً.
وفي مكان آخر انصرف سلامة موسى للتمعن في سيرة عدد من المشاهير الذين عمروا طويلاً. كان الكاتب مهتماً بمعرفة الأسباب والعوامل التي أطالت أعمارهم، كأنه يريد لقارئه أن يسترشد في توجيه حياته بما في دروس حياة هؤلاء من عبر، فإن لم يجد القارئ في ذلك القدوة فلعله يجد فيها ما يدعو للتنبه.
وجميع من اختارهم كانوا من المسنين الذين استمتعوا بالدنيا، وليس المقصود هنا استمتاع الملذات المألوفة من ثراء أو سلطان أو شهوات، وإنما المقصود ذلك الاستمتاع الراقي الذي لا ترتفع إليه سوى النفوس الناضجة التي عنى أشخاصها بتربيتها.
والأعمار بيد الله بطبيعة الحال، ولكن العناية بالنفس أمر موصى عليه .. لذلك اختار سلامة موسى شخصيات مثل غوته أديب ألمانيا الكبير، الذي كان يكرر دائما بأن «المعيشة فوق المعرفة والحياة أولى بالعناية من الفن»، ولم تكن ثقافته وفنه وعلمه إلا توسعاً وتعمقاً في الحياة. مات غوته في الثالثة والثمانين، وكان في الرابعة والسبعين حين وقع في حالة حب، وبقي شاباً يعمل ويحب ويختبر إلى يوم وفاته وهو يسعد بعمله واختباراته ويدرس كأنه تلميذ ويبحث في العلم ويؤلف في الأدب.
من الشخصيات التي تحدث عنها سلامة موسى أيضاً كان الزعيم الوطني المصري سعد زغلول الذي مات بعد السبعين لكنه لم يعرف شيخوخة الذهن أو النفس. أصبح سعد محامياً بعد أن تجاوز الثلاثين، ولكنه وجد ثقافته ناقصة فعاد تلميذاً ليدرس اللغة الفرنسية والقوانين الفرنسية ويتقدم لامتحان الدبلوم وهو في الأربعين، وحين عطلت الجمعية التشريعية في مصر أثناء الحرب العالمية الأولى التي كان سعد زغلول رئيساً لها أبى أن يتقاعد ويتثاءب، وكان قد تجاوز الستين، فعمد إلى اللغة الألمانية يدرسها وهو في تلك السن، حيث عاد تلميذاً للمرة الثالثة، في السن التي يحال فيها الموظفون اليوم على المعاش.
تحدث سلامة موسى أيضاً عن الأديب الايرلندي الأصل برنارد شو الذي ألف وهو في التسعين من عمره كتابا في السياسة والاجتماع. يذكر أن برنارد شو توقف عن تناول طعام اللحم منذ أن بلغ الثمانين من عمره واقتصر على الطعام النباتي، ولم يدخن أو يتعاطى الكحول قط، لكن سلامة موسى يعتقد أن حياة الكفاح التي عاشها شو هي السبب الأكبر أو الرئيسي لحيويته العجيبة التي ظل محافظاً عليها في عمره الذي كاد يبلغ مائة سنة.
كلاماً مشابهاً قاله الكاتب عن المهاتما غاندي زعيم استقلال الهند، الذي كان نباتياً مثل برنارد شو، لكنه كان يضيف اللبن إلى طعامه المكون من الفواكه والخضروات، وكان نحيفاً ضامراً لا يزيد وزنه على أربعين كيلوغراماً. لكن سر أن غاندي النحيف الذي يبدو عليلاُ عاش متقد الذهن حتى شارف على الثمانين من عمره هو أن حياته كانت سجلاً من الكفاح والتسامح الديني، هو الذي لم يكن متعصباً لدين أو فلسفة.
يريد سلامة موسى أن يحملنا على إدراك جدوى ألا نعيش في خواء الذهن والنفس وعطالة الجسم. أن تكون لنا في هذه الحياة قضية وهدف نبيل نكرس جهودنا وطاقاتنا في سبيله، مما يجعل لحياتنا مغزى وطعم، وما يجعلها ثرية، معطاء، مثمرة.
____
*جريدة عُمان
____
*جريدة عُمان