تنظّر روبن وارهول أنّ لما يسكت عنه في النص السردي، “ما لا يمكن سرده” (the unnarratable) أربعة أنواع -أو كما أود أن أقول أربعة وجوه أو أربعة أقنعة- تتناولها شرحاً وإيضاحاً بالأمثلة في مقالتها “السرد الجديد؛ أو كيف يصوّر ما لا يمكن سرده في التخييل الواقعي والفيلم المعاصر.” وتلفت وارهول الانتباه في البداية إلى إمكانية انفتاح آفاق “مالايمكن سرده”، أو المسكوت عنه بأنواعه الأربعة، على إحتمالات ظهور أنواع أخرى جديدة، أو إختفاء بعض مما كان يسكت عنه في النص السردي سابقاً، في أزمنة وأمكنة مختلفة، وذلك لأن “مالايمكن سرده” يختلف بإختلاف السياقات والمرجعيات الثقافية والمجتمعية، والأوضاع السياسية، ومن حقبة زمنية إلى أخرى. فقد يتمدد محيط دائرة “مايمكن سرده/the narratable” نحو الخارج، فيتقلص نتيجة ذلك نطاق “مالا يمكن سرده”؛ أو تتراجع حدود الأول الى الداخل ما يؤدى الى اتساع نطاق الأخير-أي “ما لا يمكن سرده”. أود التنويه هنا بأنني قد أستخدم لاحقاً “ما لا يستطاع سرده” بدلاً من “ما لا يمكن سرده” في حالات معينة وحسب الأفضلية.
وتضيف وراهول أن ثمة عنصرين أو ملمحين سرديين آخرين يتواشجان في علاقة انتماء إلى “مالا يمكن سرده” وهما: “نقيض السرد/disnarration” و”غير المسرود/the unnarrated”. ويؤلف الثلاثة معاً علامات فارقةً ومميزةً للجنس الإبداعي السردي؛ فالأجناس الأدبية، كما تقول، تشيد تمايزاتها واختلافاتها عن بعضها البعض ليس بما تتضمنه وتعبر عنه فحسب؛،بل، أيضاً، بما لا تحتويه، أو ما يتعذر التلفظ به، أو تمثيله وتصويره.
نقيض السرد
وتستخدم وارهول مصطلح “نقيض السرد/disnarration”، الذي ينسب الى المنظّر السردي جيرالد برنس، في الإشارة إلى المقاطع السردية التي تتحدث عمّا لم يحدث أو لن يحدث من أحداث وأفعال وأقوال. وتصرح بموافقتها لبرنس في تنظيره أن طبيعة ومحتوى “نقيض السرد”، و”المستوى الذي يشتغل عليه، والتواتر النسبي لتمظهراته، والحجم النسبي للفضاء الذي يشغله- كلها معطيات بالإمكان توظيفها كاستراتيجيات لتشخيص وتوصيف الأساليب السردية، والمدارس، والحركات وحتى حقب كاملة”(221). وتضيف إلى ما يجادل به برنس موضحة أنه على الرغم من أن برنس لم يشر إلى الأجناس الأدبية، إلا أنه من الممكن تشخيصها ووصفها سواءً وفقاً لدرجة توظيفها ل”نقيض السرد” أو حسب طبيعة المادة التي يحذفها الساردون على نحو واضح. وتقترح وارهول نفسها مصطلحاً آخر، “غير المسرود/ the unnarrated”، للدلالة على “المقاطع السردية التي تتوقف بشكل واضح عن سرد ماكان يفترض أن يحدث، كاشفةً امتناع السارد عن السرد”(221). إن العناصر الثلاثة “مالا يمكن سرده” و “نقيض السرد” و”غير المسرود”، تشكل كلها شواهد وعلامات على تميز الجنس الأدبي وذلك لأن الأجناس الأدبية تعرف بما لا تحويه أو لا تستطيع احتواءه بقدر تميزها بما تحتويه في العادة. فالرواية والفيلم ينتمي كل منهما إلى جنس معين ليس بناءً على ما لا يقول أو ما لايفعل فقط، بل بناءً على ما يقول ويفعل أيضا.
وتتغير حدود إمكانية السرد أو القابلية للسرد “narratability”، تقول وارهول، حسب تغيرات الأمكنة والأزمنة وجماهير المتلقين، كما أن تلك الحدود تتمدد و تتغير خلال سيرورة التطورات الجينيرية، وتعكس إدراكات المتلقين المتنامية للقضايا السياسية والأخلاق والقيم. إن “نقيض السرد” و “غير المسرود” أمثلة على توضيح الساردين لحدود “مايمكن أو يستطاع سرده”، كما أن ” نقيض السرد/disnarration” و “عدم السرد unnarration/ “يشتغلان أحيانا كإستراتجيتين لدفع الحدود إلى الخارج، ما يؤدي بالتالي إلى إحداث تغيير في الجنس الأدبي السردي ذاته. بفعلهما هذا يسهمان في ظهور ما تسميه وارهول “السرد الجديد”، أو “استرتتيجيات سردية لخلق أجناس سردية جديدة”.
تحت ما يمكن سرده
توزع وارهول “مالا يمكن سرده” أو “ما لا يستطاع سرده” على أربع خانات تصنيفية، وتنوه بأن قائمتها غير نهائية، وأنها لا تدعي حصر كل أشكال وصيغ “مالايمكن سرده”. فتسمي النوع الأول من أنواعه “”the subnarratable، أي تحت “مايمكن سرده/the narratable”، أي أدنى من مستواه فليس ثمة حاجة لسرده لكونه عاديا ًومألوفا. ويشمل هذا النوع من “ما لا يمكن سرده” الأحداث العادية جداً إلى درجة عدم استحقاقها للتصوير والتمثيل؛ ويمثله في التخييل السردي الواقعي الأحداث التي يستدل القارئ على حضورها من خلال غيابها. ومن أمثلة ذلك، مما تورده وراهول، حذف الروائي الإنجليزي أنثوني ترولوب الكثير من التفاصيل والأفعال التي قامت بها السيدة لفتون، من الصباح إلى المساء، خلال تحضيرها للحفلة التي كانت ستقيمها في مساء أحد الأيام في رواية (بيت كاهن فراملي).
فوق ما يمكن سرده
وتلصق وارهول المصطلح “the supranarratable ” على النوع الثاني من “مالا يمكن سرده”. ويتأسس اختلاف النوع الثاني عن الأول على أساس من موقع تموضعه حول محور “مايمكن سرده/the narratable”. فبينما يحتل النوع الأول موقعا تحت محور “مايمكن سرده”، يتموضع الثاني فوق ذلك المحور كما يفهم من البادئة” “supra، أي فوق، فهو فوق ومتجاوز ل”ما يمكن سرده”. وينضوي تحت مظلة ” فوق ما يمكن سرده/ the supranarratable” كل ما يستعصي ويتأبى على السرد، وما يفوق القدرة على التعبير أو الوصف، حين يتعرى عجز اللغة، أو عجز الصورة البصرية، عن تمثيله بشكل كامل حتى لو كان أحداثا متخيلة. وهذا مايؤدي في الغالب إلى حالة “عدم السرد/unnarration “؛ كما يفعل ترسترام شاندي في الرواية التي تحمل أسمه للروائي لورنس ستيرن حين يلجأ إلى تضمين الرواية صفحة سوداء للدلالة على عدم قدرته على التعبير عن حزنه لموت “يوريك”، أو عندما يصرح أي سارد بأنه لا يجد الكلمات المناسبة التي يستطيع التعبير بها عن أي مشهد من المشاهد المكتنزة بشحنات عاطفية قوية.
____
*الرياض