تشينوا أتشيبي والأدب الأفريقي


*طلعت رضوان


يتميز الإبداع الأفريقي بالتحولات التي طرأتْ على شعوب أفريقيا، بعد احتلال الاستعمار الأوروبي القارة السوداء الغنية بمواردها الطبيعية. وتركــّـز الإبداع حول الدفاع عن الخصوصية الثقافية للشعوب الأفريقية، مع أشكال المقاومة ضد الاحتلال الأجنبي. القارئ العربي عرف الكاتب النيجيري تشينوا اتشيبي باكراً مع روايته «أشياء تتداعى». ومن بين النماذج المهمة الأخرى للكاتب ذاته رواية «سهم الإله» من ترجمة سمير عبد ربه والصادرة عن المجلس القومي المصري للترجمة عام 2014.
تدور الرواية حول شخصية «إيزولو»؛ كبير كهنة «أولو» الذي منحه أهالي قبيلته الحب والتقدير، وأشعروه بقوة نفوذه عليهم، بينما هو كان يتشكك ويتساءل: هل هذا النفوذ حقيقي؟ رغم أنّ الأهالي منحوه حق اختيار أيام الأعياد القومية. وكان خصومه ينتقدون أحاديثه حول تشويه صورة الآلهة، فكان يتحداهم قائلاً أنّ من يقول هذا الكلام «لا يستطيع معرفة الفرق بين وجه الإله ووجه القناع»، وكان على وعي بأنّ الناس هم الذين اخترعوا الآلهة المحلية. وكان (أولو) إلهــاً باقي الآلهة. بل إنه وصف أحد الآلهة بالإله الجبان. وأنّ الإله (شوكو) أوشك على تدمير العالم. بل إنّ الإله (أولو) يـُـدمّر الإنسان. وقال للأهالي أنّ «أولو» لن يـُـحارب معكم كما تعتقدون. في إشارة- بلغة الفن- إلى ضرورة أنْ يعتمدوا على أنفسهم. ومن إشاراته الموحية عن اختراع الآلهة، يدخل الأديب إلى باب الأساطير المصبوغة بالخرافة، مثل أنّ مرض الأرواح لا يمكن علاجه إلّا بالنار. وحيرة الناس عند معرفة الفرق بين الأفعى العادية و(الثعبان المقدس) وأنّ أهالي ست قرى قالوا لجد إيزولو «سوف تتحمّـل الآلهة من أجلنا»، وأنّ شجرة الأودالا «مقدسة بالنسبة لأرواح الأسلاف»، وإذا زادتْ بذور البطاطا، فإنهم يـُـقـدّمون قربانـاً لأولو عرفاناً بالجميل، وإذا كان العدد ناقصـاً يبحثون عن السبب عند العرّافين.
ورغم الهوس بالخرافات، فإنّ ذلك لم يمنع أهالي شعب (أنينتا) من حرق إلههم. في ثنايا الرواية، تمكــّـن الأديب من تضفير الأساطير بصراع القبائل بالاحتلال الإنكليزي، فعندما حدثتْ معركة بين قبيلتيْن، فإنّ ممثل الاحتلال تمكــّـن من وقف الحرب بينهما، ولكنه- بدهاء المحتل – «جمع كل الأسلحة وأصدر أمراً لجنوده بتكسيرها في وجوههم، ثم فصل في النزاع وأعطى الأرض للقبيلة التي تستحقها»، وقال ممثل الاحتلال إنّ الحكم غير المباشر يرتكز على الإرادة الوطنية أو القومية بالنسبة لعديد من الأمم الاستعمارية»، وبعد هذا الكلام، حاول – بسذاجة بالغة – أنْ يبدو الاحتلال الإنكليزي مختلفــاً، فأضاف «نحن نسعى لتطهير النظام القومي من شوائبه، لبناء حضارة عليا تسمو فوق الجذور القومية التي اكتسبتْ أفكارها من قلوب وعقول الشعب»، ثم تناقض مع نفسه فقال: «لا يجب أنْ نــُـدمّـر البيئة الأفريقية أو العقل الأفريقي أو أصل جنسه»، تصوّر مُـمثل الاحتلال أنّ الشعب سينخدع بكلامه «المعسول/ المتناقض»، ولذلك كان تعقيب إيزولو «كلمات؛ كلمات، حضارة، عقل أفريقي، بيئة أفريقية. هل – هذا الكلام الاستعماري – أنقذ رجلاً كان مدفونــاً إلى رقبته حيـاً، وقطعة من البطاطا المُـحمّـرة فوق رأسه لجذب النسور؟».
لجأ ضباط الاحتلال إلى القسوة لدرجة أنهم كانوا- أحيانــاً- يجلدون بعض المواطنين، فساد الرعب بينهم، لذلك عندما تحدى شاب أفريقي أحد الضباط الإنكليز، وأهانه فإنّ صديقــاً قال له: «هل جننتَ حتى تهاجم الرجل الأبيض؟ لقد سمعتُ أنّ عائلتك من المجانين»، وهذا الشخص الذي قال هذا الكلام، لم يكن خانعـاً أو انتهازيـاً أو عميلاً للمحتل، وإنما كان يقرأ (الواقع)، لذلك قال لمن حوله «الرجل الأبيض جاء ليبقى… الرجل الأبيض جاء ليقضي على عاداتنا… إنني متأكد مما أقوله لكم الآن وسترون»، ثـمّ أضاف ساخراً «هو يملك قوة مصدرها إله حقيقي، قوة تحرق مثل النار. إنه الإله الذي نجتمع عنده في اليوم الثامن من كل أسبوع» وكان الإنكليز يـُشرعون في إنشاء طريق جديد مُـسفلت، فكان تعقيب هذا الشخص الذي أجاد قراءة الواقع «الطريق الجديد… الدين الجديد، كل ذلك جزءاً من الشيء نفسه… الرجل الأبيض يملك بندقية وفأسـاً وقوسـاً، ويحمل النار في فمه. ولن يـُـحارب بسلاح واحد».
وركــّـز الأديب على مزج الاستعمار بالدين، حيث إنّ الإنكليز شجـّـعوا على بناء الكنائس، وعلى أنّ يتخلى الشعب النيجيري عن آلهته المحلية، ولذلك عندما سمع إيزولو جرس الكنيسة، بدأ يفكر في الدين الجديد، وساورته الشكوك، وأصبح خائفــاً لكون الدين الجديد مثل الجُزام. وعندما اعتنق ابنه المسيحية عنّـفه، ولكن صار من العسير محاولة رده عن ذلك الدين. وعندما سأله البعض عن معنى جرس الكنيسة، لخــّـص رأيه قائلاً: «يعني أنْ تترك جمع البطاطا لتذهب إلى الكنيسة. وينشد الناس أغنية الفناء»، ورغم ذلك فإنّ إيزولو استسلم للأمر الواقع ووافق على دخول ابنه في المسيحية، بهدف أنْ «تكون الكهنوتية من نصيب الابن»، وبرّر موقفه قائلاً لابنه: «العالم يتغير من حولنا، وأنا لا أحب ذلك، ولكنّ إحساساً يتملّكني بأنّ أولئك الذين يرفضون صداقة الرجل الأبيض اليوم سيقبلون غداً». فعل إيزولو ذلك رغم معارضة زوجته الشديدة. وعندما وصفه البعض بأنه «سهم في قوس ربه المحلي شعر (إيزولو) بنشوة كبيرة»، وانتهى الأمر بإيزولو أنْ «عاش فى أيامه الأخيرة في بهاء وعجرفة وكاهنــاً مهووسـاً».
واختتم الأديب روايته قائلاً: «عرف زعماء القبيلة وشعبها النتيجة النهائية التي كانت بديهية. فقد وقف الإله بجانبهم ضد الكاهن الطموح والعنيد. لقد وقف بجانب حكمة أسلافهم، فالرجل مهما كان عظيمـاً لن يكون أعظم من شعبه. وقد عاقب الإله كاهنه وتخلى عنه»، والأكثر دلالة أنّ الناس قـدّموا البطاطا على الدين الجديد. ولكن صار حصاد البطاطا يتم باسم الابن. ورغم التحولات في شخصية إيزولو (من التمسك بالآلهة المحلية إلى قبول المسيحية)، فإنّ الأديب نجح في جعله أحد الرموز القومية للشعب النيجيري، حيث كان ممثلو الاحتلال الإنكليزي يعتبرونه أحد المُـحرّضين الأساسيين ضد الإنكليز، ولذلك سجنوه أكثر من مرة.
ولذلك أبدع الشعب النيجيرى أسلوب «المُـقاومة السرية» وكل ذلك رغم محاولات بعض الكتاب الإنكليز، في خلق أساطير (ملفــّـقة) حول (العلاقة التاريخية بين بريطانيا ونيجيريا) مثل كتاب جورج آلين المعنون «مصالحة قبائل النيجر البدائية»، وجاء في الفصل الأخير منه «من أجل تلك المطالب (مطالب الاحتلال) بل من أجل حياة أفضل و(احتلال هادئ) فإنّ نيجيريا مغلقة وستظل مغلقة حتى تفقد الأرض بعضـاً من خصوبتها… إنّ نيجيريا تــُـقـدّم ذراعيها لأجل الرجال (الإنكليز) في الهند الذين جعلوا من الإنكليز صـُـناعـاً للقانون… إنه لمن الفخر الشديد أننا لا نخاف من هذه الشعوب المُـتخلفة. إنّ الجنس البريطاني سيأخذ مكانته. إنّ الدم البريطاني سيحكم».
ولكن عندما سمع أحد رموز الاحتلال الإنكليزي هذا الكلام، كان له رأي آخر، حيث قال: «نحن البريطانيين مجموعة من الفضوليين نفعل كل شيء بغير حماس. انظر إلى الفرنسيين، إنهم لا يخجلون من تعليم ثقافتهم إلى الأجناس المُـتخلفة، ويقولون لحاكم هذه الشعوب إذا لم تكن راضيـاً، فتعال وحاربنا. أما نحن البريطانيين فماذا نفعل؟ إننا نتخبط من طريقة إلى عكسها». في تلك الرواية البديعة، تمكن المؤلف من التأريخ الروائي لفترة من عمر الشعب النيجيري، فضفّـر- بالإبداع الروائي- بشاعة الاحتلال الإنكليزي بمقاومة الشعب النيجيري للاحتلال بالأساطير التي امتزج فيها ما هو غيبي، بالتراث الذي شكّـل الشخصية القومية للشعب النيجيري، من خلال الوعي بمُـجمل تراث الثقافة القومية لشعوب أفريقيا.
____
*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *