لانا المجالي
*أنا قَلَم من “أورانوس” وتشبهني هيفاء وهبي
______________________
لن يصدمك العنوان، إن كنت من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي؛ فهذه بعض نتائج اختباراتي تحت عناوين ” من أنتَ من الأشياء” و”على أيِّ كوكبٍ يجب أن تعيش” و”من هي بجمالكِ من النّساء”، أمّا الحيوان الذي يمثلني فهو العقرب، فيما سأتزوج من نجم كرة القدم “كريستانيو رونالدو” بعد أن أقابله في حديقة عامة وأعيش معه قصّة حبّ جارفة أكسِّر خلالها بعض الأطباق والأكواب؛ لأنّ ذراعي –اليمنى على الأغلب- هي التي ستنقل لي بشرى “صعودي” بالحبّ ، رغم تطابق سماتي الشخصيّة مع مثيلاتها عند “عبد الباري عطوان” كما أكّد لي الاختبار المعنون بـ”من تشبه من الإعلاميين العرب” بعد أن أجريته ثلاث مرات غيّرت فيها إجاباتي، وطبعا لن أفصح لكم عن اسم الزّعيم العربي الأقرب لشخصيّتي حتّى لا تتعرض مقالتي هذه لمحاولات “إسقاط” و “خلع”، أو “اغتيال” –لا سمح الله-، مع أنّني صورة طبق الأصل عن “هتلر”؛ كما أظهرت نتائج اختبار آخر!.
والحقيقة أنّ موضوع الاختبارات ليس مجال حديثي هنا، ولن أناقش إيجابياتها أو سلبياتها ولا حتى مقدار دقتها والأسباب المختلفة التي تدفعنا لاختراع إجابات “مثاليّة” نوعا ما رغم التعليمات التي تطلب منا “الإجابة بصراحة”؛ فالأمر ليس أكثر من وسيلة للتسلية المشروعة عند معظم مستخدميها،أو رغبة بإشباع الفضول عند آخرين، لكن.. لو أخذنا بعين الاعتبار الشعبيّة المرتفعة التي تتمتع بها، فإن أحد تلك الاختبارات؛ وأقصد ذاك المعنون بــ “من هي بجمالك من النساء” أثار دهشتي، لأنّه يقارن “صورتك/ جسدك/ شكلك الخارجي” مع صورة “أخرى” دون أن يراك بشكل فعلي.
قد يقول قائل، إنّ معظم الاختبارات غير منطقيّة، فلماذا هذا الاختبار تحديدا؟
لا بد من التوضيح أولا، إن موضوع دهشتي يتعلق بالمتلقي نفسه لا بالاختبار؛ لذا أستطيع أن أتفهم رغبة الإنسان بالكشف عن مستقبله أو (شخصيته ثم مقارنتها مع شخصيّة أخرى) أو حتى وصف معدنه أو رغباته الدفينة أو المعلنة…الخ؛ وكلّها أشياء غير ملموسة ولا يمكن قياسها بسهولة أو هي افتراضيّة أو تدخل ضمن وصف الفنتازيا، لكنني لا أستطيع الاقتناع أن كل هؤلاء الأشخاص –أو النّساء في هذه الاختبار تحديدا- يخوضون سلسلة من الأسئلة للوصول إلى نتيجة يمكن الحصول عليها من خلال النظر في أقرب “مرآة”!؛..أداة القياس ذائعة الصّيت المرتبطة بحاسّة البصر، هذه الأخيرة التي تعتبر أساس اكتساب المعرفة ومن ثمّ استيعابها من قبل العقل، رغم تحذير بعض العلماء والفلاسفة والمفكرين من القوى الخطيرة المرتبطة بالوهم عند استخدام البصر، كما فعل “أرسطو” –مثلا- عندما فضّل عليها حاسة اللمس باعتبارها أساس المعرفة التي يحصل عليها الإنسان من جميع الحواسّ.
لا أتوقع أنّ المتفاعلين مع مثل هذه الاختبارات يتجاهلون حاسّة “البصر” كوسيلة للمعرفة في قضيّة “بصريّة” لا مجال لأي لبس فيها، كما أجزم أنّ غالبيتهم لا تعاني الــِ”سبكتروفوبيا”؛ تلك “الفوبيا المرضيّة” التي تدفع الشخص إلى الخشية من مجرد رؤية انعكاس صورته في المرآة، كما لا أستطيع إرجاع الأمر إلى قلقهم المتولّد من أسطورة “نرسيس/ نيركسيسيوس/ناريس” الذي عشق صورته في الماء حتى سقط فيه ميتا قبل أن يتحول جسده إلى زهرة نرجس جميلة، أو “ميدوسا” التي حوّلت كل وقع نظرها عليه إلى حجر قبل أن يقتلها البطل “بروسيوس” مستخدما درعه كمرآة عاكسة، أو “أورفيوس” الذي خسر زوجته “اوريديوس”- بعد أن خلّصها من قبضة “هادز” ملك العالم السفلي- لأنّه لم يمنع نفسه من محاولة النظر إليها وهي تسير خلفه –مع الإشارة إلى زوجة النبي لوط عندما نظرت إلى الخلف لمشاهدة أهلها أيضا-، الأمر الذي يخالف تعليمات ملك العالم السفلي “هادز” وتسبب في عذاب “أورفيوس” والكثير من الموسيقى السّاحرة!.
حسنا، سأترك البحث عن أسباب الرضوخ –غير المفهوم- لمثل هذا “الاختبار” وأحيله –مثلا- إلى أسباب وجوديّة، أو “أمراض تكنولوجيّة” جديدة طرأت كنتيجة عكسيّة لسيطرة موضوع “الصّورة”!، أو دوافع نفسيّة لها من يفسرّها، معلنة أنّ الأمر يتجاوز قدراتي التفكيكيّة، فيما نتجوّل معا داخل موضوعنا الرئيس “المرآة” وتداعياتها.
لكن، دعوني أختم هذا الجزء من مقالتي، بالإشارة إلى ظاهرة تكنولوجيّة أخرى تعيد أسطورة “نرسيس” بشكلها الحداثي والجماعي هذه المرّة، وأقصد “صورة السيلفي” واسعة الانتشار، محذِّرة من أطماع “صُنّاع نرسيس” الجُدد، واستسلامنا-نحن الـ”نرسيس/يون/يات”-أو (النرجسيون)! – النرجسيّة= حبّ الذّات المفرط-.. لشروط التأطير والأسطرة والعبوديّة الحديثة التي تدفعنا للموت انتحارا من أعلى أسوار “الذّات” المنعزلة والفرديّة فيما “ايكو” – وحدها- تموت- كل يوم- من أجلنا ودون أن نعلم!، تلك الحالة التي لم يقصدها محمود درويش، حين قال:
ليس جميلاً
كما ظنّ. لكن صُنَّاعَهُ
ورَّطوهُ بمرآته. فأطال تأمُّلَهُ
في الهواء المقَطَّر بالماء …
لو كان في وسعه أن يرى غيره
لأحبَّ فتاةً تحملق فيه،
وتنسى الأيائل تركض بين الزنابق والأقحوان …
ولو كان أَذكى قليلاً
لحطَّم مرآتَهُ
ورأى كم هو الآخرون …
ولو كان حُرّاً لما صار أُسطورةً …
*المرآة.. تنصبُ لي وَجهًا!
______________________
(1) الطاووس وبياض الثلج
في مقطع فيديو على موقع “يوتيوب” تظهر فيه ردود أفعال الحيوانات أمام “المرآة”، انتزع الطاووس تعاطفي مع أزمته وهو يراقب الآخر-داخل المرآة- الأجمل منه، كما كانت الملكة الشريرة في قصة بياض الثلج والأقزام السبعة Snow White and the Seven Dwarfs”/ للإخوين غريم 1812م”، تفعل باستمرار، كلما شاهدت تقلّص عضلات وجهها وهي تتلقى شهادة “المرآة السحرية” أن امرأة أخرى “بياض الثلج” تفوقها ونساء الكون جمالا.
لا أخفيكم سرّا إنني كنت أجهل عدم قدرة الحيوانات على معرفة نفسها في المرآة، خصوصا أن القطّة التي تعيش في بيتي تتجاهل هذا الكيان المفضفض إلى درجة بدأت أشكّ معها بدقة المعلومة، قبل أن تقع بين يديّ دراسة صينيّة حديثة تخلص إلى أنّ القرد الريسوسي-الأقل ذكاء من الشمبانزي أو الغوريلا- يمكن تدريبه وبالتالي تعليمه مهارة تمييز وجهه في المرآة التي تعتبر مؤشرا “على إدراك الذات وهي سمة مميّزة للذكاء الأكثر تطورا لدى البشر”؛ كما يقول عالم الأعصاب في الأكاديمية الصينية للعلوم، نينج جونج، الذي أشرف على إجراء الدراسة المنشورة في دورية (كارانت بيولوجي) /نوفمبر 2014.
وبعيدا عن عالم الحيوانات، وقريبا منه أيضا، دعونا ننتقل إلى الإنسان الذي لا يميّز وجهه في المرآة قبل أن يبلغ العامين من عمره، حيث تلعب هذه المهارة دورا مهما في نمو وتطور مفهوم الذات عند الأطفال؛ في وقت تنعدم فيه لدى بعض المصابين بالاضطرابات العقلية مثل؛ أمراض التوحد وانفصام الشخصية والزهايمر والتخلف العقلي ، أو تبدو غير فعّالة عند بعض مرضى الجهاز العصبي وهي حالات سأشير لها في الجزء الخاص بإدراك الذات من هذا المقال.
(2) صورة وضحاء خارج ماء البئر وماري الدمويّة
أمّا على صعيد الطفولة الحضارية، فقد بحثت كثيرا عن وصف دقيق وواقعي لتلك اللحظة الأولى التي تعرف فيها الإنسان على المرآة بشكلها الحديث دون جدوى، حتى أسعفتني “فرس العائلة” للروائي الفلسطيني محمود شقير – سنتناولها في مقال آخر- بما طلبته وبشكل باذخ، سأكتفي بنقله كما هو دون أن أعلّق عليه، باستثناء أنّ هذه المرأة البدويّة الفلسطينيّة وضحاء تختبر تجربة نادرة في مجتمعها، وربما منحتها هذه التجربة-اقتناء مرآة- مكانة معيّنة بين نساء عائلة العبداللات :
” حينما أحضرها المختار من السوق لم تصدّق وضحاء نفسها وهي ترى صورتها فيها. دهشت مما رأت. في السابق وهي في البريّة، اعتادت النظر في ماء البئر فترى صورة لرأسها على صفحة الماء، إنّما بغير وضوح تام. وفي رأس النبع، صارت ترى وجهها منعكسا على نحو ضبابيّ في زجاج النوافذ. الآن ترى كلّ تفصيل في جسدها مجسّما بدقّة، فأعجبتها المرآة وشكرت زوجها لأنه فاجأها بهذه الهديّة التي لم تفكّر فيها من قبل. صارت تطيل النظر في وجهها ورقبتها وصدرها عبر المرآة كلّما وجدت لديها وقت فراغ. وفي بعض الأحيان كان زوجها يشاركها متعة النظر التي تجعل جسدها محطّ اهتمام. يقبض على المرآة ويرى وجهه ملاصقًا لوجهها، يبتسمان ويشعران بفرح غامر، وحينما تتركه لتغلي له القهوة، يفتل شاربيه وهو يحدّق في المرآة، ثم يقبض على المقصّ ويشذّب شاربيه إلى أن تعود”.
وفي ردة فعل أخرى لامرأة أخرى: ” قبضت فطّومة عليها وراحت تنظر إلى وجهها فيها. رأت صورتها وأعجبها وضوح الصورة، مطّت لسانها خارج فمها، وبعد قليل شدّت شفتيها حتى بان بياض أسنانها. ضحكت وراقتها ضحكتها في المرآة”.
ونستطيع أيضا، مع محمود شقير في الجزء الثاني من روايته المعنونة بـ”مديح لنساء العائلة” أن نلاحظ التطورات، إذ تحولت “المرآة” مادّة خصبة للخرافة الشعبية التي لعبت دورا هاما – وكنتُ أوردت في الجزء الأول من المقال بعض الأساطير المرتبطة بالمرآة- في التأثير على توجهات الناس وحكمهم على الأشياء وتفسيرها.
دعونا نتابع هنا، “وضحاء” نفسها في “فرس العائلة” وهي تحيل موت ابنتها في “مديح لنساء العائلة” –أي بعد سنوات على ذاك اللقاء الحميم بينها وبين وجهها- إلى سكّان المكان(الجنّ)، تقول: “وأنا متأكدة، والعلم عند الله، من أنّهم تسببوا في موت بنتي عزيزة”.
والحقيقة أن “عزيزة” توفيت إثر آلام في الرأس: “ولمّا صار عمرها عشر سنين، شكت لي من رأسها.قالت: راسي يا أمّي فيه وجع”، لكن وضحاء وفي محاولة منها لتفسير سبب الوفاة، خلصت إلى: “بعدين، فطنت للمرايا في الدار. وعرفت أنّ عزيزة نظرت في المرآة اللي في غرفة نومي أنا ومنّان. أنا أعرف أنَّ المرآة أنثى، ولهذا السبب لا تسلم من شرّ الجنّ”.
ولم تكتفي بذلك، بل وصفت الجريمة بمنتهى الدقّة!: ” كان الوقت بعد الغروب، وعزيزة دخلت الغرفة لتحضر لي سجّادة الصلاة. دخلت يا ويلي عليها وقالت لي إنّها نظرت في المرآة. وأكيد اللي ساكنين في المرآة (اسم الله حولنا وحوالينا) لمسوها وضربوا راسها”.
حسنا، من واجبي الآن، أن أترك “وضحاء” العربيّة الفلسطينيّة بين صفحات الرواية وهي “تغطّي المرايا بقماشٍ خفيف، اعتقادًا منها بأنّ النظر إليها في الليل يصيب المرء بالخبل أو بمسّ من الجنون”، وآخذكم برحلة إلى أوروبا، حيث تغطى المرايا أيضا، عند وفاة شخص بظروف غامضة، حتى لا تبقى روح الميّت معلّقة في المرآة بانتظار الشخص المناسب للكشف عن ظروف موت صاحبها!، أو رفعها من غرف المرضى حتى لا تسرق أرواحهم، أو الحرص على بقائها سليمة لأنّ” كسر المرآة يكسر الحظّ سبع سنين”، والمرآة التي تسقط من الحائط وحدها هي نذير الموت، وهناك أيضا أسطورة ماري الدمويّة وهي –كما تقول الحكاية- امرأة بريطانية تعرضت إلى حادث تسبب بتشويه وجهها، ما دفعها إلى مطاردة النّاس في المرايا ومحاولة تشويه وجوههم، وغيرها من الخرافات التي لا يتسع المجال لذكرها.
(3) إدراك الذات .. حياة البابلي وآسيا كنعان وبورخيس
في “سيدات زحل” للروائية العراقيّة لطفية الدليمي، يلتبس وعي البطلة بهويتها،إذ تتساءل وهي في حالة من الذهول: “أأنا حياة البابلي، أم أنني أخرى؟؟ ومن تكون آسيا كنعان التي أحمل جواز سفرها؟؟”.
حسنا، لا تتوقعوا أن أسرد عليكم تفاصيل الرواية الآسرة؛ فأنا معنيّة بالمرآة –التي كان ظهورها طاغيا ومؤثرا في معظم الصفحات، ربما لارتباطها الوثيق بعالم الأنثى- ، وسأكتفي بنقل هذا المشهد لأنه مثال عملي على “إدراك الذات” موضوع هذه الجزئيّة.
تقول البطلة حياة البابلي-“التي تعيش تجربة استثنائية على صعيد علاقتها بذاتها-لسبب أو لآخر- وتعيد لها المرآة – وقتيّا على الأقل- بعض ملامح تلك العلاقة التي تشارك فيها حواسّ أخرى (الشمّ/اللمس) كضيوف شرف!:
“أقف أمام المرايا فينبئني ثوبي الناعم بألوانه الورديّة إنني هي، هذا ثوبها؛ ثوب حياة البابلي، أنت هي يا امرأة، كانوا ينادونني حياة وأنا في هذا الثوب، ينعكس لون الثوب الورديّ المموّج على روحي فأشتعل، دخّان الحرائق في بغداد يناقض لون الورد، أدعكُ ثوبي بأصابعي فأحسّ دفء اللون، تعرق أصابعي ويتجعّد النسيج قليلا، أشمّ في أصابعي رائحة ملح ونعناع تشرّب به النسيج من زمن بعيد بعيد كالرؤيا… “.
وفي مثال آخر، أكثر تعقيدا، يروي الأديب الأرجنتيني “خورخي لويس بورخيس” في قصته “المرايا المجعدة”، تجربته مع المرآة التي قد تبدو لوهلة، ذكريات مشتركة مع طفولة كل واحد فينا:
“وأنا صغير كنتُ أشاهد المرايا كهواجس”، و”خفتُ أحيانا أن تبدأ الانحراف عن الحقيقة، ومرّات أخرى خفت أن أرى وجهي هناك، مشوّها بمغالطات غريبة”.
ثم ينتقل –الراوي- إلى سرد تفاصيل علاقة –غير واضحة المعالم- ربطته بفتاة تدعى جوليا: “لم يكن من حبّ ما بيننا، أو حتى ادّعاء حبّ؛ أحسست فيها حدّة كانت بعيدة تماما عن الشهوانيّة..” ، ولأن التفاصيل لا تهمنا كثيرا سننتقل إلى النقطة الحاسمة فورا:
“لا بد إنني أخبرتها مرّة عن المرايا، لذلك في 1928، عاجلني الهذيان الذي يزدهر بي الآن، وعلمت بأنها فقدت رشدها، وأن تلكم المرايا قد تجعدت في غرفتها حيث ترى صورتي فيها، تغتصبها فترتعش وتسقط ساكنة وتقول إنني أضطهدها بالسحر”.
ويختم –بعد أن يترك جوليا لمصيرها المروّع داخل الحكاية- باستدعاء الحقيقة المتعددة في المرايا من زمن طفولته قائلا:
“يا للعبوديّة الموجعة، تلك التي لوجهي؛ لأحد وجوهي السابقة، ولا بدّ أن هذا المصير البغيض لملامحي، بحكم الظروف، يجعلني بغيضا كذلك، لكنني لم أعد أهتم”.
نستطيع أن نفسّر الأمثلة أعلاه، أو –نقترب من محاولة تفسيرها- برصد العلاقة التي تربط بين (الذات والجسد)، وهي العلاقة التي وصفها (كارل ياسبر) بـ:”الكائن الإنساني هو جسمه، ولكنه في الوقت نفسه يقف خارج جسمه ويراه كأنه أي شيء”، أما عند (فرويد)، فإن الجسد يوازي اللاوعي، على اعتبار أن التقابل بين (السلطة/الأنا) و(اللذة/الجسد) يقودنا الى التناقض القائم، حيث يتجلى الأول كممثل للذات الواعية، بينما يقف الجسد ممثلا للذات اللاواعية.
والحقيقة، أن أجسادنا هي الواجهة التي تبدو للآخرين أو هي النوافذ التي تطل ذواتنا من خلالها على العالم، وهي في الوقت نفسه تشكّل القوالب التي تحدد مناشط الذات وامتداداتها، لذا لا يمكننا الحديث عن عملية وعي بالذات دون أن يكون هذا الوعي مرتبطا بدرجة من درجات تصورنا لها.
لكن، والحال كذلك، فقد وجد أن ثمة فرق بين صورة الجسم الحقيقية وبين إدراك الشخص لها؛ لأنّ ليس كل ما ندركه إدراكا حقيقيا هي واقعة حقيقية خارج ذواتنا.
إن الفرق بين الصورة الحقيقية للجسم وبين إدراكنا لها قد يتزايد باضطراد حتى يشكل أعراضا هامة لبعض الحالات المرضية التي تصيب الجهاز العصبي للإنسان، مثل مرض “طرف فانتوم phantom limb” حيث يكون الجسم الحقيقي متغيرا، كما هو في حالة بتر أحد الأطراف، لكن المصاب يحتفظ بصورة العضو المبتور ويشعر به!، أو في حالة معاكسة تسمى “أوتوتوباجنوسيا autopagnosia” وهي خبرة يعاني منها المرضى بخلل وظيفي أو تشريحي في الفص الصدغي الأيمن من المخ، حيث يهمل الشخص النصف المغاير من الجسم ويتصرف كأنه غير موجود حتى أنه قد لا يشعر بالآلام التي تنتابه، رغم أن الجسم يكون كاملا دون بتر أو نقصان.
(4) المرايا الأخرى .. فريدا كاهلو
فريدا كاهلو.. كانت طالبة في كليّة الطب، عندما تعرضت عام 1925 إلى حادث سير، اخترق فيه قضيب معدني بطنها، وكسر الفقرتين القطنيّتين الثالثة والرابعة من عمودها الفقري، كما أصيبت بكسور أخرى في عظام الحوض والكتف والقدمين؛ ما اضطرها إلى البقاء في فراشها نائمة على ظهرها دون حراك لعام كامل. ووضعت لها والدتها سريرًا متنقلا ومرآة ضخمة في سقف الغرفة، فكانت وحيدة وجها لوجه مع ذاتها (جسد/ وأنا) طوال الوقت.
في هذه الظروف انبثقت الفنانة المكسيكيّة فريدا كاهلو .. الفنانة التي كانت ترسم نفسها، أو –على نحو أكثر دقّة- ترسم سيرتها الذاتيّة الممثلة بملامحها الجامدة. حواجبها الكثيفة. نظراتها التي لا تفصح عن شيء.
حسنا، لا أفكّر –هنا- بسرد حياة فريدا وفنّها، لكن حكايتها تذكرني بــــ”مرايا أخرى” غير لامعة نستطيع أن نعكس من خلالها ملامح أرواحنا- تلك التي لا تشيخ ولا تفنى-؛ ..أصواتنا عندما نشتاق مرآة أخرى. أحلامنا عندما نحققها مرآة أخرى. قبلة فوق جبين الحبيب لا يزول أثرها مرآة أخرى. دمعة ساخنة مرآة أخرى.( رسالة على ورقة بيضاء بحجم الكفّ /قصيدة تجهضها –دون قصد-/ ديوان شعر تلقي به إلى دار النشر مع إهداء “غير واضح ” / مجموعة قصصيّة أو رواية توقعها لنفسك في احتفال صامت/ لوحة وألوان ومعرض/ اكتشاف علميّ مثير/ هذا المقال الرصين جدا وهو يتفادى –في كل سطر- أن يذكر اسمك/ …) كلّها مرايا أخرى، فلا تتنازل عنها، عندما تشتاق رؤية وجهك.
_____
*الجسرة الثقافية.