هواجس في حضرة اللغة


*د.حكمت النوايسة


خاص ( ثقافات ) 
أظنّ أنّني أفكّر بالإنجليزية التي لا أتقنها، وأكتب بالعربية…
هل يحدث هذا؟
هو سؤال؛ فالإنجليزية (المكتوبة) تستفزّني مثل لوحة جميلة… بما فيها من (نحو) و (لا نحو) لست أجد كثير عنها في النقل عنها، لو أردت، وأن تنقل عنها يعني أنّك تستطيع أن تنقل (روح) المعنى ببساطة، وأمّا أن تنقل إليها من (العربيّة) مثلا… فإنّ عليك أن تكتب النص العربي بالعربيّة ثانية وثالثة حتى ترى نفسك قادرا على إيصاله لقارئ مبتدئ من غير لبس، بعدها تباشر نقله لغير العربية…
أفكّر بالإنجلزيّة… قد يحدث هذا … ولكنّني، وهذه المعضلة، أعشق بالعربيّة، وبها أسخر، وبها أغضب… فكيف أشرح الحب والسخرية والغضب؟ كيف؟ 
المشكلة مُخْتَصَرةً:
أفكر بالإنجليزية
أعشق بالعربيّة
وأتكلّم لغة غريبة عنهما، لغة التعامل اليومي.
هذا ما أكتشفه في لحظة تأمّل في عبارة كانت في ذهني مليئة بـــ ( وات؟) ( إف شي أور هي) (سو ذات) (وات ايفر) من روابط وانفعالات، ثمّ تنكتب بلغة (حصيفة) تحاول أن تتخلّص من الإرث الذهني لها… ثم يحدث أن تبحث لها عن فضاء تسكّنها فيه… فترسلها إلى صحيفة غير مقروءة، أو تدوّنها هنا، فتتّهم بالــــ (تفلسف) يا مسكين.
يحدث هذا، يحدث تماما…
وحدث مرّة أن استفزّني منشّط جزائري، ببلاغته القومية التي هزّت أركاني، عندما قال عرضا، وهو يعني ما يقول بحضور الرئيس الجزائري بوتفيلقة، في احتفالية خاصّة بالمفدي زكريا، شاعر الثورة الجزائرية، ومؤلف النشيد الشهير (قسما)، قال ذلك المنشّط:
أفكّر بالفرنسيّة، وأعشق بالأمازيغيّة، وأتكلم العربية…
أظنّنا في مشرق الوطن ومغربة تحت هذه الحالة من الـــ (العنف) اللغوي… هذا في حالة اللغة نفسها، وهي المسؤولة (أحيانا) عن تمثّلات اجتماعية … والحديث مغر…
مغر من زاوية: بأي لغة تفكّر؟ قل بأي لغة تفكّر لنصل إلى نصف الطريق… وبأي لغة تعشق؟ لكي نصل..
اللغة مفتاح كلّ شيء… أظنّها… وأظنّنا نسرف على أنفسنا بعدم معرفة أركان هذه الثلاثية الناتجة عن كوننا نتعلّم التفكير بلغة غير لغتنا الأم، كما هي ناتجة أيضا عن عدم معرفتنا لغتنا الأم أصلا…
هذا هو التفكير الغائب تماما عن القائمين على مناهجنا… ولست أنحاز إلى لغة، لأنني حائر أصلا بين ثلاث لغات… ولكنّني أشفق على الأجيال القادمة… أشفق عليهم من إصرارنا على وضعهم في هذه الثلاثية… ولعلّي أذكّر هؤلاء القائمين على المناهج وسياسات التربية بـــ أنّ من نأخذ وأخذنا عنهم معرفتنا الدقيقة بتفاصيل (اللسان) العربي… كثير منهم تعلّموا العربية بعد أن كانوا مستوفين لغتهم الأم… بعد أن عشقوا وفكّروا بلغة واحدة… فكّروا وعشقوا بلغة واحدة… وأتاح لهم ذلك أن يأخذوا لغتنا بوصفها موضوعا، لا عشقا، وكذا نحن نأخذها في مدارسنا بوصفها موضوعا لا عشقا… أليست هذه مشكلة؟؟ 
من مفتاح اللغة ستجدني، وفي اللغة ستجدني، ومن هنا، إنّني لا أجدني.
__________
*شاعر وكاتب أردني. 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *