«خير جليس» .. التواصل الحديث أحاله إلى «كائن مهمل»!


*علي الرباعي


عدّ إمام الشعر المتنبي «الكتابَ» خيرُ جليس، إذ لم يكن في عصره مذياع ولا مسرح ولا شاشة فضية ولا ذهبية ولا ماسية. ومنذ أبينا آدم عليه السلام والإنسان يبحث عن المعرفة ويجتهد لفك أسرار الكون من حوله، كانت القراءة مطلبا حيويا عبر التاريخ، وعندما علمه الله الأسماء وثقها آدم لأبنائه من بعده كتابة، والكتابة لم تكن بالشكل المتعارف عليه الآن، إذ مرّت بمراحل عدة.
في البدء كانت الكتابة المسمارية أول ما ظهر في العراق، والكتابة الهيروغليفية في مصر، وتطورت إلى المرحلة التصويرية إذ كان الإنسان يعبر عما يريد قوله عن طريق الرسم، ثم المرحلة الرمزية التي يعبر من خلالها عن المعاني المجردة والأفعال. تلتها المرحلة الصوتية أو المقطعية وهي التي أسست الأبجدية، ثم المرحلة الأبجدية التي تطورت فيها الكتابة من الكتابة بالمقاطع، إلى الكتابة بالحروف.
وفي زمن مضى لم يكن للإنسان من وسيلة للتسلية والترفيه والمعرفة سوى القراءة، وكان الكتاب مقدّسا، برغم أن الكتابة كانت ممنوعة، والنبي عليه السلام قال «لا تكتبوا عني شيئا» ومما يروى أن أحد الحكام قطع يد مؤلف؛ لأنه كتب سيرة المجتمع في عصره. ولم يكن الساسة ينقمون على الحديث الشفاهي إلا أن الكتابة مؤرقة كونها تتحول إلى وثيقة يتناقلها الأجيال وربما غدت دليل إدانة لتاريخ ما أو حقبة.
وبما أن للكتاب خطورته تعارفت أجيال على تهريب الكتب. ومما يرويه بعض المثقفين السعوديين أن سائقي الشاحنات كانوا يؤمنون لهم حاجاتهم من الكتب من العراق والأردن والشام ولبنان. ثم جاء البريد فكان أداة لنقل الكتب. وإن كان الرقيب له بالمرصاد. ولم يتخل عشاق القراءة عن التحايل ومخاتلة الرقيب بطلب تغيير غلاف الكتاب وعنوانه. ومع وفرة الكتب إلا أن التقنية الحديثة أحالت خير جليس إلى خانة الإهمال. وبمناسبة يوم الكتاب العالمي أستعيد سؤالا طرحه الفيلسوف الفرنسي ديدرو «من سيكون السيد الكاتب أم القارئ»؟ ويجيب على السؤال المؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل قائلا «إن القارئ هو السيّد، وإنه هو الذي فرض تطور الكتاب وأشكاله عبر التاريخ، بدءا بالانتقال من اللفافة، إلى الكتاب المجلد وصولا إلى كتاب الجيب الذي ظهر في العصر الفيكتوري». ويجزم أن فعل القراءة هو الذي أسقط بعض أشكال الكتب مثل الكتب الكبيرة التي عادت إلى الظهور في القرن التاسع عشر لبعض الوقت، ولكن صعوبة التعامل معها أدى بها إلى الانقراض. وربما لم يدر في خلد الأسلاف أن أحفادهم سيجوبون مكتبات العالم من خلال آلة صغيرة وينتقون ما يريدون من كتب وأفلام ومقاطع حتى أن معظمهم من شدة الانفتاح على التقنية والتعلق بها غدا يردد «لا وقت في الوقت».
___
*عكاظ

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *